يسأل الكثير الكثير في خضم حديث نتجاذبه حول الفتن والمحن.

– إنك تقول إن الهوية الدينية لدى الشيعة أعمق من العروبة فالناس أتباع للمبادئ التي اعتنقوها لا التي ولدوا عليها، وأنا بدوري أسألك لماذا إذن قاتل الشيعة مع السنة في الحرب العراقية الإيرانية بكل بسالة وشاهدنا ذلك بأم أعيننا كلامك يا صديقي لا يمت للواقع بصلة؟

وهذا السؤال المنطقي أشكل على الناس وخاصة أصحاب الفكر الوطني في العراق، ولهذا الأمر تحليل نفسي خارج قالب الوطنية وعواطفها الجميلة مهم يجب الانتباه إليه، وبداية يجدر بنا الإشارة لأسباب تغير الشعوب ونخص منها موضوع القيادة ونتفرع إلى فرعين في التنافس القيادي.

الأول: التنافس الواقعي بين القادة:

ولنجاح القيادة على أرض الواقع لا بد للقائد من نقاط أساسية يحبها الجمهور في القائد:

الأول: الكاريزما.

الثاني: المبادئ الجامعة.

الثالث: الثروات.

الرابع: القوة.

ومن يستطيع امتلاك أكبر عدد من هذه النقاط يملك أرضًا أكبر وشعبًا أكبر.

التنافس الواقعي بين القيادات تسلط الضوء على تطور نفسية الشعوب:

في السبعينات وحتى الثمانينات وما تلاها من القرن الماضي كانت لا تزال الموجة العروبية في أوجها الكبير، ولم تكن تلك الروح الحاقدة لدى الشيعة قد ظهرت بعد من أعماق التاريخ، بل كانت الناس تعيش في استقرار حتى لا يكاد يعرف السني والشيعي أو المسيحي أو الأزيدي شيئًا عن اختلافهم أساسًا بسبب ذوبانهم في الهوية الوطنية والعروبية، كما أن لا نواة جاذبة وقوية تحرك الشيعة نحو مبادئهم وتلبسهم أمراض الماضي من جديد.

فبعد أن نجحت الثورة الإيرانية في الانقلاب على الحكم العلماني في إيران فكر قادة الثورة الشيعية التوسع باسم الثورة الإسلامية، وهو مبدأ شامل يعزف على عواطف الشعوب الإسلامية ككل، ولكن هذا لم ينجح بسبب انخفاض الروح الدينية في الشعوب الإسلامية آنذاك ونشاط العروبية.

وهذا ما ساعد العرب على استنهاض تاريخ الصراعات بين العرب والفرس في حرب الثمانينيات بقوة بين العراق وإيران ليجعلها حرب مبادئ لدى الشعب العراقي سنة وشيعة ومسيحيين ناهيك عن تعاطف الشعوب العربية وحكامها آنذاك.

ومن سوء حظ الثورة الإيرانية الإسلامية وجود قائد عروبي كصدام حسين ذلك الرجل الذي لا يتكرر من حيث الجاذبية والرمزية والدهاء، مستنهضًا في نفوس شعبه سنة وشيعة والعرب عمومًا المواجهة التاريخية بين العرب والفرس وقضية محاولاتهم الحثيثة – أي الفرس- لاستعباد العرب والانتقام من أبناء الفاتحين لبلادهم.

فبالرغم من أن الكاريزما العالية التي يتمتع بها الخميني وهي نواة القوة في المذهب الشيعي وفي نفوس الشيعة الإيرانيين خصوصًا آنذاك، إلا أن الكاريزما التي يمتلكها صدام حسين تفوقه كثيرًا حتى صار نواة عروبية تفجر تلك الروح في قومه وقنديلًا تأفل قربه كل القناديل.

إضافة لتلك الكاريزما فإن صدام جدد صورة عنترة العبسي بكل ما تحمل من قيم، فحين تشاهد خطابات صدام حسين من أرض المعركة ويحارب ويدير المعركة غير آبه بالخطر، يتملكك شعور الشبه وتتحول بداخل كل جندي نسخة من صدام حسين وروح شجاعته وبسالته وكأنك تقرأ قصيدة عمرو بن كلثوم تلك القصيدة الحماسية التي تعيدك إلى الذاكرة العربية البطولية وتسترف لك روح البطولة والانتصار أمام عينيك قبل أن يحدث.

هذه القدرة العالية على عدوى الجمهور وتحويل النفوس إلى مرايا تعكس صورة ذلك البطل، ذلك الاستنساخ العاطفي في النفوس نادر الوجود في عالم القيادة لا يمكن صناعته من العدم.

هل تزول الكاريزما؟

حينما قرر الغرب إزالة تلك الكاريزما من النفوس وهز صورة صدام حسين تلك النواة الجامعة ليعود العرب ضعفاء مشتتين، لم يجد الغرب طريقًا لإزالتها في نفوس الشعب العراقي والعرب عمومًا أو هز الثقة بها وشيطنة ذات تلك النواة الجاذبة للقوة إلا بعد أكثر من عشرة أعوام.

لقد خطط الغرب جيدًا للتمهيد لإزاحة صدام بداية من هز شخصيته العبقرية في نفوس الشعب العراقي والشعوب العربية من خلال:

١- استحداث المشاكل وتكوين أكبر قدر من الهزائم المتلاحقة لتكون بديلًا عن الانتصارات القديمة في الذاكرة.

٢- خلق حالة حصار اقتصادي تجعل الشعب في حالة ضائقة وتذمر مستمر.
٣- ربط كل المشاكل التي تصيب البلاد بشخص القائد.

٤- تنشيط دور الطابور الخامس لزعزعة الهيبة بالنكات وترويج الإشاعات حول عمالة الرئيس واتهامه في سرقة أموال الشعب… إلخ.

٥- التركيز الإعلامي المستمر لشيطنة القائد.

حيث لا مجال لشيطنة رئيس العراق الراحل من خلال الإعلام المرئي بسبب سيطرته عليها، إلا أن إذاعات مونتكارلوا والبي بي سي قامت باللازم، ناهيك عن إذاعة طهران، فقد كانت تقوم باستنهاض التشيع في نفوس الشيعة بكل وسيلة واستعداء إسلاميين ضد صدام من خلال الخطب الدينية المناوئة له.

بعد سنة واحدة من سقوط صدام تحول الشيعة إلى شيعة بكل معنى الكلمة، فقد رجحت كفة إحدى النزعتين – النزعة العروبية والنزعة الشيعية- في الشخصية الشيعية وصارت لها نواة جاذبة وقوية وهي الحكومة الإيرانية وقياداتها بعد أن صارت تترنح في نهايات عهد صدام.

ثانيًا: التنافس التاريخي بين القياديات صراع الماضي، المتمثل في التجربة التركية

ففي تركيا صراع بين القديم والجديد بين أصعب الخصوم، فرغم أن أتاتورك يحمل تلك الكاريزما العالية والذاكرة الزاخرة بالانتصارات والبناء والإعمار التي تجعل نفوس الكثير من الأتراك حتى المتدينين يقولون: إن أتاتورك إنسان راقٍ وقوي وصانع تركيا الحديثة وحاميها من كيد الأعداء، ولكنه بلا دين.

ولا يكاد يخلو مكان من صورته، ناهيك عن وجودها في العملة التركية والقائمة تطول في أسلوب ترسيخ صورة أتاتورك المنتجة لمبادئه في اللا دينية في قلوب وعقول وذاكرة المجتمع التركي.

ولأن الجمهور يميل إلى بطل حي فلا بد له من بديل عن الأموات، خاصة بعد ترهل العلمانية ومرورها بحالة تعفن فكري واقتصادي، فلم تستطع القوة العلمانية إنتاج شخصية مماثلة لأتاتورك أو قادرة على امتلاك قلوب المجتمع التركي كما يمتلكها التيار الديني الآن، ولقد ملأ ذلك الدور الكاريزمي الرئيس أردوغان بجدارة لامتلاكه تلك الروح المباشرة عند الحوار والقدرة القيادية والجاذبية على المسرح، وعلى الرغم من أن أردوغان لم يمر بحروب تجعله منتصرًا في عيون شعبه لتلبسه علة القوة، ولكنه حقق المزيد من التطور وجعل تركيا أكثر استقلالًا وأكثر قوة أمام الأخطار.

ولأن المجتمع التركي يحب تاريخه فإن العزف على أمجاد العثمانيين منح التيار الإسلامي وبالذات أردوغان حلة ساحرة في عيون الأتراك والعرب والكرد من غير أصحاب النزعة القومية لأنه السلوك العثماني في الحكم مبدأ إسلامي شامل.

ولأن الجواب الأمثل لمن يقول إن أتاتورك صنع تركيا الحديثة هو:

– لكن العثمانيين صنعوا إمبراطورية حكمت العالم وهذا الكلام له أثر عظيم في النفسية التركية لعدة أسباب:

الأول: أن الشعب التركي يمتلك ذاكرة إسلامية وهو لا ينسى الصراع المسيحي بسبب استمراره.

الثاني: أن الهوية العثمانية تجمع ما بين الإسلام الشمولي وبين الاعتزاز بالهوية التركية، وهو ما يجعلها تحصد نتاج القوميين الأتراك بنجاح.

الثالث: أن إنجازات العثمانيين أوسع بكثر من إنجازات أتاتورك، خاصة أن مشروع أتاتورك القومي خلف صراعًا كرديًّا تركيًّا خطيرًا جدًا على تركيا وحصرها داخل الحدود.

رابعًا: أن الهوية العثمانية هوية شاملة تجمع المسلمين السنة تحت مظلتها كما كانوا بشكل مريح وشرعي وبذلك ستحصل على دعم أوسع وحلف أقوى.

لا تزال هذه القوة الإسلامية كامنة كالمارد في القمقم تحتاج إلى يد قائد تستطيع أن تحررها من ذلك المصباح وهذا يعني أيضًا: أن ولادة أي قائد أو مشروع قادر على جمع شتات هذه الأمة يعني أيضًا إعلان حالة الذعر العالمية من ولادة إمبراطورية في الأفق تمتد يداها إلى أغلب دول العالم في أمة تعدادها المليار ونصف المليار متوزعين في كل مكان من كوكب الأرض، بمعنى أن الأمر ممكن ولكنه في غاية الصعوبة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد