عندما نسمع كلمة «علمانية» غالبًا ما تتبادر إلى ذهننا تلك الأفكار الثورية والحداثية عن الحرية والديمقراطية والانفتاح. لكن هل فعلًا ندرك معنى هذه الكلمة الحرفي والمعجمي؟
قبل الخوض في أي تعريف لهذا المصطلح دعونا أولًا نرجع قرونًا إلى الوراء لنحاول تقصي بذور وجذور وأسباب ظهور هذا المصطلح إلى الوجود.
لعلكم تتفقون معي على أن ظهور «العلمانية» كان في القرون الوسطى، بالضبط حين كانت أوروبا تعاني نوعًا من الانقسام أو بالأحرى نوعًا من «انفصام» داخل المجتمع الأوروبي الذي كانت تسيطر عليه «لوبيات كنسية» بالغت إلى أقصى الحدود في استغلال نفوذها الديني، فكل هذه العوامل ساهمت إلى حد كبير في تثبيت الكره لكل ما هو ديني في المجتمع الأوروبي، مما أدى بشكل منطقي إلى ظهور حركات تصحيحية تلتها ثورات، وكان هدف كل هذه الثورات هو إقصاء كل ما هو ديني عن السلطة والنفوذ، هنا ظهرت «العلمانية»، أو بالأحرى «اللا دينية» قولًا وفعلًا.
لكن كيف دخل هذا المصطلح إلى الشرق ولماذا أصلًا ترجم «علمانية» هكذا ولم يترجم «لا دينية»؟
لكي نجيب عن هذا السؤال وجب علينا أن نذكر أولًا أن الكلمة التي نتحدث عنها الآن يعبر عنها في اللغة الإنجليزية بـ(secularism) ونفس اللفظ نجده أيضًا في اللغة الفرنسية مع تغيير طفيف في النطق (sécularisme)، ونجد أيضًا أحيانًا مرادفًا آخر وهو (Laïcité). وإذا ما بحثنا عن معنى هذه الكلمات نجد مثلًا في الإنجليزية أن معجم ميريام وبستر يعرف (secularism) كـما يلي:
.Indifference to or rejection or exclusion of religion and religious considerations
وترجمتها إلى العربية ستكون على الشكل التالي: اللا مبالاة تجاه الشيء، أو إقصاء الدين والمظاهر الدينية.
ويعرف موقع linternaute كلمة (sécularisme) كما يلي:
Le sécularisme est le principe selon lequel les questions religieuses doivent être séparées de celles de l’État. La liberté de culte n’est pas remise en cause, mais l’Église ne doit pas intervenir dans la politique.
وترجمة التعريف ستكون كما يلي:
«العلمانية» هي مبدأ فصل المسائل الدينية عن الدولة. وليست حرية العبادة محل نقاش ولكن يجب على الكنيسة ألا تتدخل في السياسة.
ويمكن استنتاج أن كلا التعريفين يتفقان على مبدأ واحد، وهو أن «العلمانية» تعني بشكل صريح وواضح: فصل الدين وإقصاءه عن كل ما يتعلق بالدولة والسياسة.
وإذا كانت معاجم اللغتين الفرنسية والإنجليزية قد اتفقت على مدلول ومعنى موحد للكلمة، فإن أغلب المعاجم العربية أيضًا اجتمعت على نفس التعريف. فنجد موقع المعاني يعرف «العلمانية» كما يلي:
اسم منسوب إلى علْم: على غير قياس: بمعنى عالم، غير دينيّ يُعنى بشئون الدُّنيا فقط ويعتقد بفصل الدِّين عن الدولة نظام/ فكر عَلْمانيّ.
لكن الاختلاف الكبير يكمن في الترجمة. لماذا في العربية نجد علمانية ولا نجد لا دينية؟
الجواب ليس معقدًا كما يظن الجميع. إن الإجابة عن هذا السؤال تكمن ببساطة في السياق التاريخي والثقافي الذي هاجرت فيه كلمة «العلمانية» من أوروبا، راكبة قوارب الحرية والانفتاح متجهة صوب الشرق.
لقد أخذ دعاة حركات التنوير والتحرر في العالم العربي «العلمانية» من الغرب ونسبوها للعلم، في محاولة لعدم كشف الغطاء عن المفهوم الحقيقي الذي يقبع في الخفاء. حيث إنه لا يعقل ترجمتها «لا دينية» أو تعريفها تعريفًا مثل «فصل الدين عن الدولة». لسبب بسيط وهو أنه لا وجود لسلطة دينية عليا كسلطة الكنيسة ولأن مؤمني الشرق لا يحتاجون وسيطًا بينهم وبين إلههم ولأنهم كذلك لا يحتاجون شراء صك يضمن لهم الجنة.
لقد لبست العلمانية ثوب الشرق كما يلبس الذئب صوف الخروف.
ولكي تكون مهمة دعاة التحرر سهلة وميسرة، كان لزامًا عليهم أن يربطوا «اللا دينية» بالعلم ويلبسوها ثوب الحداثة والانفتاح. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو إذا كانت «العلمانية» تهدف حقًا إلى الانفتاح والحرية وغيرها من الأفكار الجميلة والأخلاق الحميدة، فهل الكذب والتدليس في نقل الكلمة من لغة إلى أخرى يدخل ضمن هذه الأخلاق؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
: سياسة, تحرر, حرية, دنيا, ديموقراطية, دين, سلطة الدين, علمانية, فصل الدين عن الدولة, فكر, لادينية, مجتمع, مقالات رأي, نظام ثيوقراطي