مقدمة
إن مفهوم التعاطف بشكل عام يعني نوع من القدرة الفعالة على التواصل مع الآخرين، لأن المتعاطف يفكر فيما يفكر فيه الآخرون، ويشعر بما يشعرون، ويستجيب لمعاناتهم، لذلك فإن انخفاض مستوى التعاطف هو الذي يؤدى إلى سوء التواصل، وعدم فهم الآخر، وهذا سبب معظم المشكلات الموجودة في عالمنا اليوم، هذا فيما يخص التعاطف مع الآخرين ولكن انخفاض مستوى التعاطف مع الذات هو الأكثر صعوبة والأشد خطورة؛ لأنه يعني سوء التواصل مع الذات، وهذا الأمر سينسحب تلقائيًا لسوء التواصل مع الآخرين، ومن لا يتعاطف مع ذاته فسيكون بداهةً أشد قسوةً في تعامله مع الآخر.
ولعل معظم الناس يواجهون العديد من الضغوط النفسية والمشاكل الاجتماعية في حياتهم اليومية، ولذلك تظهر عند الكثير منهم الاضطرابات النفسية والاجتماعية كفقدان الدافعية للإنجاز وأحيانًا تترجم بانخفاض مستوى التحصيل العلمي أو الفشل الدراسي والتي قد تثير لديهم انفعالات سلبية كالقلق وعدم الاتزان الانفعالي والشعور بالخزي والعار، ويمكن أن يترتب على ذلك تضخم في الضمير والمزيد من جلد الذات بشكل عام وصولًا إلى الأعراض النفسية كتدني مفهوم الذات والعزلة الاجتماعية والانطواء على الذات والاكتئاب. وقد رأى البعض من العلماء المعاصرين بأن التعاطف مع الذات (Self-Compassion) من الأساليب والفنيات العلاجية التي تسهم في خفض الشعور بالخزي والعار ويعالج العديد من الاضطرابات النفسية والاجتماعية الأخرى.
أولًا: تاريخ ظهور مبدأ التعاطف مع الذات
يعتبر التعاطف مع الذات (Self-Compassion) من الأساليب والفنيات الأساسية التي يمكن أنت تندرج تحت لواء مايسمى بـ(علم النفس الإيجابي)، بوصفها أدلة فعالة في رفع منسوب عناصر القوة الإيجابية بالشخص وبالتالي معالجة مواطن الضعف بشكل تلقائي، إذا أن تقوية عناصر القوى في الشخصية من شأنه خفض منسوب نقاط الضعف فيها وهذه الآلية في العلاج من أهم مقومات علم النفس الإيجابي.
وأما فيما يخص ظهور التعاطف في العلاج النفسي، فقد ظهر في التراث النفسي مع بداية الألفية الثالثة. وقدمت عالِمة النفس كريستين دي. نيف، تأصيلًا نظريًا لهذا المفهوم من خلال دراسات متتالية بداية عام (2003) كما طورت مقياسًا لقياسه، وقد صاغت هذا المفهوم وتمت ترجمته إلى عدة لغات.(1)
وقد صاغت العالمة كريستين دي. نيف هذا المفهوم متأثرتًا بالأفكار والتعاليم البوذية، ومن خلال ممارستها الشخصية للتأمل Meditation))، والتعاطف مع الذات اتساقًا مع هذه الأفكار يعني أن التعاطف تحول إلى الداخل، وهو نوع من علاقة الذات بالذات (Self-to-Self)، ويشير إلى كيفية تعامل الفرد مع نفسه في حالات القصور، والفشل المدرك، أو المعاناة الشخصية عندما يقع الفرد في خطأ ما، أو تكون الظروف الخارجية في الحياة أكبر من قدرته على تحملها.(2)
ومما سبق يتضح لنا بأن فكرة التعاطف مع الذات فكرة قديمة وقد استخدمت بالثقافة الهندية عمومًا وبالتعاليم البوذية على وجه الخصوص، وربما وجدت هذه الفكرة في التعاليم الدينية السماوية ــ بشكل غير مباشر ـــ والتي تدعوا إلى الرحمة والتعاطف مع الأنا والآخر في آن معًا. ولكن استخدامها بشكل علمي واستخدامها بوصفها تقنية أو آلية في العلاج النفسي ظهرت مع بداية القرن الحالي.
إن مفهوم «التعاطف مع الذات» ظهر « كمبدأ علمي» – مع نشر ورقة بحثية مهمة من قِبَل عالِمة النفس كريستين دي. نيف، من جامعة تكساس في أوستن، عام 2003 – تضاعفت أعداد المنشورات الأكاديمية التي تبحث في هذا الموضوع.
ثانيًا: معنى مفهوم التعاطف مع الذات
إن مفهوم التعاطف مع الذات مفهوم قديم حديث في آن معًا، إذا أنه وجد قديمًا في الأفكار والتعاليم البوذية، وقدم المبادئ الهامة والعناصر الأساسية التي ارتكزت عليها الكثير من المدارس البوذية قديمًا، ويصور التعاطف في إطار التعاليم البوذية على أنه طريقة من طرق مساعدة الأفراد على تدريب عقولهم، مما يؤدي إلى تحسين عام في جودة الحياة والوصول إلى الاستنارة النهائية. وإذا ما تبنى الأفراد التعاطف نحو ذواتهم ونحو الآخرين، فإن ذلك يساعدهم ويمكنهم من التعايش مع المشاعر القوية ويمنحهم درجة كبيرة من الفهم والرعاية الموجهة ذاتيًا والمساندة والتي تساعد في إحداث أصعب أشكال التغير.(3)
أما حديثًا فقد صاغت العالمة كريستين دي. نيف، هذا المفهوم متأثرةً بالأفكار والتعاليم البوذية، ومن خلال ممارستها الشخصية للتأمل Meditation، والتعاطف مع الذات اتساقًا مع هذه الأفكار تطور تطورًا دلاليًا فأصبح يعني أن التعاطف تحول إلى الداخل، وهو نوع من علاقة الذات بالذات Self-to-Self، ويشير إلى كيفية تعامل الفرد مع نفسه في حالات الشعور بالعار، والفشل المدرك، أو المعاناة الشخصية عندما يقع الفرد في خطأ ما، أو تكون الظروف الخارجية في الحياة هي السبب في تلك المعاناة، والتي ليس له فيها أي دور. ويساعد التعاطف على فهم الذات والوعي بها بشكل أكبر وكذلك فهم الآخرين والتعاطف معهم.
وقد ظهر هذا المفهوم بحلته الجديدة في التراث النفسي مع بداية الألفية الثالثة. وقدمت كريستين دي. نيف تأصيلًا نظريًا لهذا المفهوم من خلال دراسات متتالية بداية عام (2003)، وحددت مكوناته كما طورت مقياسًا لقياسه، وقد صاغت هذا المفهوم وتمت ترجمته إلى عدة لغات، وأصبح من بعدها أسلوب علاجي ووقائي في مجال الصحة النفسية مرتكزًا على أسس وفنيات ونظريات علمية.
وبالرغم من أن «نيف» هي أول من صاغ مفهوم التعاطف بشكله الحالي وأعطته تعريفًا واضحًا عام (2003) إلا أن هناك دراسات سبقتها إذ قدم Steckall دراسة حول التعاطف مع الذات عام (1994) ولكن لم تكن بنفس دلالة المفهوم الذي قدمته كريستين دي. نيف عام (2003) إذا إنها أعطته أبعادًا ودلالات أكثر عمقًا واتساعًا.
وتعرف الباحثة (كريستين دي. نيف) التعاطف مع الذات بأنه شعور ممتد بحنو الفرد نحو ذاته في حالات عدم الكفاءة والفشل والمعاناة كما يدركها الفرد. (4)
وفي ضوء ما سبق يمكن القول: بأن مفهوم التعاطف مع الذات يعني أن يكون الشخص لطيفًا ورحيمًا مع ذاته، ومتفهمًا ومدركًا لها ولما يعتريها من أحوال، وأن يكون واعيًا للإخفاقات الشخصية التي يواجهها سواء كانت هذه الإخفاقات ناتجة عن أسباب شخصية ذاتية (داخلية) أو أسباب موضوعية(خارجية)، كما أن التعاطف مع الذات هي شكل من أشكال الرعاية الذاتية والدعم الذاتي في مواجهة التحديات والعقبات والإخفاقات والأزمات التي تواجه الفرد ويتأتى ذلك كله في سياق الحنو على الذات، ورؤيتها في إطار خبرات إنسانية مشترك، والوعي بالأفكار والمشاعر والانفعالات، وذلك كله بدلًا من جلد الذات، أو تجاهل ألمها وما تعانيه، والحكم عليها بقسوة وبشكل سلبي ونقدها نقدًا لاذعًا بطريقة غير مبررة ولومها بشكل مبالغ فيه بسبب ما فيها من النقص والعيوب والتي يكاد لا يخلو منها أحد من الناس.
فالنقص والخطأ موجدان في البشر منذ وجدوا على سطح هذه البسيطة وكلنا نواجه الفشل ونقع في الخطأ ولكن بالمقابل من ذلك كلما كنا واعين لطبيعتنا الإنسانية وموضوعيين في أحكامنا على ذواتنا ومتقلبين لها كلما زادت قدرتنا على الشعور بالحنو والتسامح والتعاطف تجاه أنفسنا واتجاه الآخرين وبالتالي زاد تقبلنا لذاتنا وللذوات الأخرى وقوي تواصلنا مع بعضنا البعض ورسخت أواصر الترابط الاجتماعي فيما بيننا نحن البشر.
ثالثًا: مكونات وأسس التعاطف مع الذات
حددت عالمة النفس (كريستين دي. نيف) مكونات وأسس التعاطف مع الذات في ثلاثة مكونات رئيسة هي على الشكل الآتي:
1. الحنو على الذات (Self-Kindness): في مقابل الحكم على الذات(Self-Judgment)، والحنو على الذات يعني أن يتعامل الفرد مع نفسه برفق ورأفة دون إطلاق أحكام قاسية عليها، وخاصة عندما يفشل في موقف معين، أو يرتكب خطأ ما، فلا يستخدم لغة داخلية قاسية مع نفسه، كأن يقول لنفسه عبارات مثل: (كم أنا مهمل، كم كنت غبيًا، أخجل من نفسي).
2. الإنسانية المشتركة (Common Humanity) في مقابل العزلة(Isolation)، والإنسانية المشتركة تعني: رؤية الفرد لتجاربه المؤلمة على أنها جزءٌ من التجربة الإنسانية المشتركة، بدلًا عن إدراكها على أنها خبرة فردية، والوعي بأن الأخطاء من طبيعة البشر، وتستند الإنسانية المشتركة إلى مبدأ الاعتراف بأن كل إنسان قد يخطئ في موقف ما، وقد يفشل في الحصول على كل ما يريد، ويعاني من خيبة الأمل أحيانًا، إما لأسباب شخصية تتعلق بقدراته أو سلوكه أو مشاعره أو لأسباب خارجية لا يستطيع السيطرة عليها والتحكم فيها.
3. اليقظة العقلية (Mindfulness) مقابل التوحد المفرط (Over-Identification)، واليقظة العقلية تعني وعي الفرد بالخبرات السلبية، والانفتاح على الأفكار والمشاعر المؤلمة والخبرات غير السارة، ومعايشتها في اللحظة الحاضرة بشكل متوازن وعدم إطلاق أحكام سلبية، أو تجنبها، أو قمعها.(5)
لقد قدمت (كريستين دي. نيف) شرحًا واضحًا لمفهوم التعاطف مع الذات ومكوناته الثلاثة التي تكمل بعضها بعضًا، والتي تعتبر بمجموعها الأسس التي يرتكز عليها العلاج القائم على التعاطف مع الذات، إذ إن هذه الأسس تدعو للتعامل برفق مع الذات، وفهمها أكثر في سياق الخبرة الإنسانية والوعي بمتطلباتها وإمكانياتها.
وتتفاعل المكونات الثلاثة للتعاطف مع الذات مع بعضها لتشكل هذا المفهوم، ويؤثر كل منها في الآخر، وكل مكون منها يمكن اشتقاقه من الآخر؛ فاليقظة العقلية تقلل من إصدار الأحكام الذاتية، وتزيد بصيرة الفرد في إدراك الإنسانية المشتركة للخبرات التي يمر بها، كما أن الحنو على الذات يقلل تأثير الخبرات الانفعالية السلبية، ويجعل الفرد يتقبلها بسهولة أكبر كجزء من الإنسانية المشتركة، وهذا ما يساعدهم على التعامل معها بموضوعية ودون انفعال مبالغ فيه أو لوم للذات، ويساعدهم أيضًا على الحد من حالة التوحد المفرط مع الذات في مواقف المعاناة والألم، ولذا، فالتعاطف مع الذات يفهم بشكل أفضل كمركب واحد مكون من تفاعل هذه الأبعاد.(6)
ولعل من الأهمية بمكان أن ندرك بأنّ التعاطف مع الذات ليس رثاء لها، ولا دوران في فلكها؛ لأنّ الرثاء يعني أن ننغمس في مشكلاتنا، وننسى أنّ الآخرين يعانون أيضًا مثلما نعاني، بينما يعني التعاطف مع الذات رؤية الأمور كما هي تمامًا، لا أقل ولا أكثر، أي هي رؤية موضوعية للذات تعكس الواقع كما هو بالفعل وتعطينا تصور لذواتنا وحكمًا عليها بصيغة أحكام الوجود لا أحكام الوجوب.
رابعًا: التمييز بين التعاطف مع الذات وبعض المفاهيم الأخرى
بعد أن تعرفنا على مفهوم التعاطف مع الذات نرى بأنه من المناسب من الناحية المنهجية ضبط المفاهيم والمصطلحات التي تجتمع مع مفهوم التعاطف وتلتقي معها على المتصل منفصلًا والمنفصل متصلًا بمعنى مفاهيم تقوم على أساس التداخل والتمايز في الآن معًا ومن هذه المفاهيم نذكر الآتي:
1. مفهوم التساهل مع الذات (Self-Indulgence): وهو مفهوم يبدو أنه يشبه مفهوم التعاطف مع الذات (Self – Compassion) ولكنه في الحقيقة مختلف عنه، فالتعاطف مع الذات تعتبر بمثابة علاج ووقائي بعيد الأمد وهي تشبه الدواء العلاجي، في حين أن التساهل مع الذات يركز على اللحظة الراهنة يشبه الدواء المسكن يسكن الألم في لحظته ولكنه لا يعالج أبدًا كما يمكن إذا تم الاستمرار فيه أن يؤدي إلى مضاعفات سيئة على الصحة على المستوى البعيد.
فالتعاطف مع الذات يتضمن حصول الفرد على السعادة والصحة الجيدة على المدى البعيد، وليس في اللحظة الراهنة فقط، بينما يتضمن التساهل مع الذات حصول الفرد على السعادة المؤقتة في اللحظة الراهنة كمحاولة منه للتخفيف من المعاناة والألم، أو الهروب من الفشل.
وعلى سبيل المثال، عندما يعاني الفرد من الضغوط الشديدة في العمل فإنه يسمح لنفسه بمتابعة التلفزيون طوال اليوم، أو تناول الحلويات بشكل مفرط، أو القيام بسلوكيات مضرة مثل إدمان المخدرات، أو الكحول، أو التدخين، أو الإفراط في تناول الطعام كنوع من مواساة نفسه على ما يعاني منه، ويعد هذا النوع من السلوك تساهلًا مفرطًا مع الذات، وليس تعاطفًا معها؛ حيث يشير التعاطف مع الذات إلى قيام الفرد بسلوكيات تحقق له السعادة الدائمة، وليس الوقتية مثل اتباع نظام لترك التدخين أو الكحول، أو اتباع نظام رياضي وصحي لإنقاص الوزن المفرط.(7)
إن التساهل مع الذات ينطوي على تفكير محدود وضيق وغير مسؤول، وهو فكر تبريري يسعى إلى خلق شماعة يعلق عليها فشله وأخطائه فيلتف عليها بدلًا من الاعتراف بها ومواجهتها بطريقة موضوعية، وبالتالي يلجأ إلى سلوكيات تحقق له لذة عابرة كمحاولة لاشعورية لتجنب النقد الذاتي. وعلى العكس من ذلك، فإن التعاطف مع الذات يحفز الشخص على تقوية الدافعية لديه، كما تجعله يمارس سلوك فعال لحل مشاكله وتخفيف معاناته بأساليب موضوعية وواقعية.
2. مفهوم الشفقة على الذات، أو رثاء الذات (Self-Pity): وهو أيضًا مفهوم يبدو أنه يشبه التعاطف مع الذات (Self – Compassion) ولكنه في الحقيقة مختلف عنه أيضًا، إذ إن مفهوم الشقة على الذات، أو رثاء الذات يعني سلوك سلبي اتجاه الذات يشبه الوقوف على الأطلال والتباكي على الذات فقط، دون محاولة الوقوف على الأسباب التي أدت المشكلة التي تواجه الفرد أو الشعور الذي يشعر به، فهو يقفز فوق المشاعر قفزة تجاوزيه وكأن العالم كله يتآمر عليه وهو وحده من يعيش المعاناة ويكابد الفشل.
وعندما قارنت العالمة (كريستين دي. نيف) بين التعاطف مع الذات والشفقة على الذات قالت: إن الفرد عندما يمر بمواقف قاسية، فإنه يوجه اللوم لذاته، ويقسو عليها، وينشغل بمشكلاته الخاصة، ويتجنب العلاقات الاجتماعية، ويشعر بأنه الوحيد في العالم الذي يعاني من هذه المشكلة، ويلجأ إلى رثاء ذاته متصورًا أن الأوضاع السلبية تخصه وحده، بينما يسمح التعاطف مع الذات للفرد بأن يرى تجاربه الشخصية دون تشويه أو انفصال على أنها جزء من الخبرات الإنسانية؛ فهو على وعي بأن ما يعانيه في حياته لا يختلف عما يعانيه الآخرون، وبالتالي يتعاطف مع ذاته.
ومن الكلام السابق نخلص إلى نتيجة مفادها بأن نقطة الخلاف المحورية بين التعاطف مع الذات والشفقة على الذات تكمن في أن الشفقة على الذات ترتكز على تصوراَ طوباويًا عن الذات بعيدًا عن الواقع ومنفصلًا عنه، ويتمحور حول الذات، والإغراق في تجسيم وتضخيم الوقائع، أي نظرة ذاتية صرفة، في حين أن التعاطف مع الذات تنطلق من رؤية واقعية موضعية للأحداث فتراها تجارب في ضوء التجارب الإنسانية المشتركة وهذا مما يجعل التعاطف مع الذات يعزز أواصر التعاطف مع الآخرين ويحقق التواصل الإنساني ضمن السياق العام لتكوين الإنساني المشترك.
ومما سبق يمكننا أن نستنتج أيضًا بأن التعاطف مع الذات يعد أحد المتغيرات التي تعطينا مؤشر قوي على الوصول لحالة من التصالح مع الذات وصولًا لحالة من الصحة النفسية السليمة والمتوازنة وذلك لدى شرائح المجتمع العمرية المختلفة ولاسيما المراهقين.
ومن المفاهيم الأخرى مفهوم تقدير الذات (Self-esteem) ومفهوم احترام الذات (respect-Self)، وهنا نتساءل ماذا يعني كل من المفهومين؟ وماهو الفارق بينهما؟ وكيف يتداخلا ويتقاطعا مع مفهوم التعاطف مع الذات؟
إن احترام الذات هو احترام الشخص لنفسه، ووجوده مهم جدًا، فإن لم تحترم نفسك فلن يحترمك الآخرون، وجود الاحترام يدل على أن الشخص يملك المبادئ والمعايير المناسبة ليعيش بشكل متوازن. سمات احترام الذات الحب والتقبل والتشجيع. النجاح والإنجاز في الحياة. الاتصال الجيد مع الآخرين. التعرف على الأفكار والمشاعر.
أما تقدير الذات فإنه يعني درجة التقييم الوجداني للفرد لجميع خصائصه العقلية والمادية وقدراته على الأداء، وتعتبر حكمًا شخصيًا للفرد على قيمته الذاتية في اثناء تفاعله مع الآخرين، ويعبر عنه من خلال اتجاهات الفرد نحو مشاعره ومعتقداته كما يدركها الآن وفي هذه اللحظة.(8)
ويعرف تقدير الذات بأنه: حكم شخصي لقيمة الذات حيث يقع بين نهايتين إحداهما موجبة والأخرى سالبة.
ويعرف بأنه: تقييم يضعه الفرد لنفسه وبنفسه، ويعمل على المحافظة عليه، ويتضمن اتجاهات الفرد الايجابية والسلبية نحو ذاته، كما يوضح مدى اعتقاد الفرد أنه قادر ومهم وكفء.
ويعرف بأنه مجموعة الاتجاهات والمعتقدات التي يستدعيها الفرد عندما يواجه العالم المحيط به فهو حكم الفرد تجاه نفسه وقد تكون بالموافقة أو الرفض. (9)
إذًا هو تقدير الفرد لنفسه، فيقوم بتقييم قدراته ومهاراته، والشخص الذي يقدر ذاته هو شخص صاحب إنجازات ووعي. سمات من يقدرون ذاتهم الهدوء والسكينة. حسن الخصال. صاحب عزيمه قوية. صريح ولديه القدرة على التعبير. إيجابي ومتفائل. يعتمد على نفسه. ناجح في عمل العلاقات اجتماعية. يساعد على التعاون. يحسم الأمور بشكلها الصحيح. يعمل على تطوير ذاته باستمرار.
وأما الفرق بين احترام وتقدير الذات احترام الذات صعب جدًا تحطيمه لأنه يعتبر شكل من أحد أشكال القبول إن تم بناء هذا الاحترام بشكل صحيح منذ الصِغر، أما تقدير الذات يمكن وسهل جدًا تمزيقه بناءً على آراء الأخرين وردود أفعالهم، فإن أحبوك ساعدوك على تطوير قدراتك ومهاراتك، وإن لم يحبوك أحبطوك، وهبطوا عزيمتك وإصرارك، وإن كنت على صواب.
ويمكننا القول: إن كل من مفهومي تقدير الذات واحترام الذات يتقاطعان ويتداخلان مع مفهوم التعاطف مع الذات، وكلاهما يعززان من وجود التعاطف مع الذات، وإن كان مفهوم الذات مختلفًا عنهما وذلك حسب شرحنا السابق عن طبيعته ومعناه، ونعتقد أن احترام الذات أقرب لمفهوم التعاطف مع الذات؛ لأنه يقوم على دعم الشخص نفسه بنفسه Self-to-Self وبالتالي وجودهما وعدمهما مرتبط بالشخص نفسه، وليس بدعم الآخرين كما هو الحال مع مفهوم تقدير الذات. ومع أن أن كل من تقدير الذات والتعاطف مع الذات مؤشر للعيش في حياة نفسية صحية سليمة، فإن مؤشر التعاطف مع الذات أقوى وأوضح من مؤشر مفهوم تقدير الذات.
خامسًا: أهمية التعاطف مع الذات وأهدافه
إن التعاطف مع الذات يتضمن إعادة البناء المعرفي الإيجابي الذي يشير إلى تغيير وجهة الفرد لوجهة نظره في الموقف الضاغط ليراه من زاوية أكثر إيجابية، وإعادة التفسير الإيجابي لمواقف الفشل، ورؤيتها في نطاق الخبرة الإنسانية العامة، وأن التعاطف مع الذات يرتبط سلبيًا مع الانفعالات السلبية، كما أنه يعزز المواجهة التكيفية، أكثر من المواجهة غير التكيفية.(10)
كما أن التعاطف مع الذات يمكن الفرد من تحقيق التوازن بين الانفعالات، والضغوط التي تنتابه في موقف معين، والتعبير عنها بشكل معقول دون مبالغة في تضخيم هذه الضغوط، أو الاستجابة لها بانفعالات شديدة، وتبني إستراتيجيات إيجابية، سواء في التعامل مع هذه الضغوط، أو الانفعالات الناتجة عنها.
وفي هذا الاتجاه، أكدت نتائج الدراسات على أن التعاطف مع الذات پرتبط إيجابيًا مع إستراتيجيات المواجهة الإيجابية مثل: المواجهة النشطة، والتخطيط، والتقبل، وإعادة التشكيل الإيجابي، بينما يرتبط سلبيًا مع الإستراتيجيات السلبية مثل: لوم الذات، والإنكار، وفك الارتباط السلوكي – التعاطف مع الذات كتدخل علاجي.(11)
ويعد التعاطف مع الذات سمة قابلة للتعديل، ويمكن تنميتها وتعزيزها من خلال التعلم، وممارسة مهارات التعاطف الذاتي لدى كل من الشباب والراشدين وتمثل تنمية التعاطف مع الذات أهمية خاصة؛ ذلك لأنه يحسن من طريقة التعامل مع الفشل، ونقائص الذات التي تحدث بسبب التعرض للمشكلات والضغوط والمحن المختلفة. (12)
ويبدو التعاطف مع الذات كمیكانیزم أساسي في أشكال مختلفة من العلاج النفسي(13) ويجب أن يدرك الأفراد أن التعاطف مع الذات مهارة مرغوبة، وينبغي العمل على تنميتها من أجل تحسين صحتهم النفسية.(14)
ويكفي أن نعرف مدى أهمية التعاطف مع الذات حينما يعتبر التعاطف مع الذات كونها من المصادر الشخصية التي تنتمي إلى منظومة متغيرات علم النفس الإيجابي.
وبناءً على قراءة مفهوم التعاطف على الذات من خلال آراء علماء النفس والبحوث والدراسات حول هذا الموضوع يستنتج الباحث جملة من الأهداف للتعاطف مع الذات يمكن أن يجملها بالآتي:
1. التعاطف مع الذات يمنحنا إحساس بالاستقرار الانفعالي، وفي حال افتقاده نشعر بحالة من القلق المستمر.
2. يمنحنا الشعور بالثقة بالنفس والشعور بالرضا عن واقعنا وقدراتنا بطريقة موضوعية، تجعلنا نعترف بعيوبنا وحدود إمكانياتنا، دون المبالغة في تضخيمها أو تقزيمها.
3. يجعلنا ننظر نظرة متوازنة لأنفسنا بلا إفراط أو تفريط، فلا ثقة مفرطة ومبالغ فيها بأنفسنا ولا تهميش لها، فالتعاطف مع الذات يمنحنا قبول واقعنا بموضوعية.
4. التعاطف مع الذات يجعلنا نتعاطف مع الآخرين ويجعلنا نتقبل الآخر ونكون علاقات اجتماعية سوية وإيجابية.
5. التعاطف مع الذات تساعدنا بأن نخرج من دائرة السلبية واجترار المعاناة والرثاء على الذات، وتجعلنا نتقبل أنفسنا على ما هي عليه بإيجابياتها وسلبياتها بمحاسنها وعيوبها مع التطلع لتعديل السلوك غير المرغوب فيه.
6. التعاطف مع الذات يساعدنا على خفض الضغوط النفسية التي نواجهها في حياتنا.
7. يقلل من الشعور بالأعراض المرضية (القلق، الاكتئاب، الخوف).
8. يقلل من المشكلات الزوجية والأسرية الاجتماعية.
9. ينظم مشاعرنا ويساعدنا على إدارتها بشكل مناسب.
10. ينمي الشعور بالسعادة والتفاؤل ويحسن من صحتنا النفسية.
الخاتمة:
تقول الدكتورة كريستين دي. نيف: إن التعاطف مع النفس هو أن تعامل نفسك باللطف والاعتناء الذي تعامل به أحد أفراد عائلتك،. .. إننا بحاجة إلى وضع أنفسنا في إطار إنساني، وهذا ما يجعل التعاطف مع النفس مختلفًا، فهو يعني أن تقبل أنك إنسان ناقص يعيش حياة غير كاملة.
من هنا يمكن اعتبار التعاطف مع الذات من أهم الطرائق لعلاج الشعور بالخزي أو العار، فالشعور بالخزي (Sense of shame) من الانفعالات التي ترتبط بالاتجاهات السلبية نحو الذات الناتجة عن التقييم السلبي للذات من قبل الفرد، أو الآخرين. وعرف الخزي بأنه «انفعال عام وشديد، يبدو في الخزي من القول والفعل، والخزي الجسمي، وخيرة الخزي، والخزي من الفشل في المواقف، والخزي من القدرة الشخصية، وردود الأفعال السلوكية للخري.(15) وعرف أيضًا بأنه التقييم السلبي للذات، فضلًا عن الشعور بالتفاهة، وعدم الأهمية عندما يقوم الفرد بفعل غير لائق لا يتناسب ووضعه أو الموقف، ورغبة الفرد في الاختفاء عن الآخرين.(16)
ويٌعتبر «التعاطف» مفهومًا مركزيًا في علم النفس، ويتم التركيز عليه نظرًا لأهميته الكبيرة في بناء العلاقات الشخصية الناجحة من جميع الأنواع، الحميمية والأسرية والعملية والاجتماعية وغيرها. كما قد يُعدّ غيابه مؤشرًا على بعض الاضطرابات النفسية والعقلية مثل اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع واضطراب الشخصية النرجسية.
ومع التنامي المتزايد في التركيز على التعاطف مع الذات في السنوات الأخيرة في مجالات علم نفس الشخصية وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس الإكلينيكي، فإنه يمكننا النظر إلى التعاطف مع الذات بوصفه متغيرًا إيجابيًا في نمو الشخصية وتنظيم وإدارة الانفعالات وكأسلوب علاجي فعال.
وبناءً على ما سبق يتضح لنا مدى أهمية وفعالية التعاطف مع الذات بوصفها برنامجًا وقائيًا وعلاجيًا يسهم كثيرًا في التخفيف من معظم أنواع المشاكل والتحديات النفسية والاجتماعية التي تواجه الناس في واقعهم المعاش، ولكن في المقابل التعاطف مع الذات لا يعني بحالٍ من الأحوال الجري وراء المتعة والأنانية والتخلي عن مسؤولياتنا الأخلاقية، بل هو يعني التركيز على تخفيف معاناتنا، قدر المستطاع، والتهوين على أنفسنا من خلال قراءتنا لذواتنا ولواقعنا بطريقة موضوعية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست