علّي من الأشخاص الأكثر ميلًا لسماع الأغنيات الطربية القديمة في ذروة الصفوة واقتحام التعب، أو حتى المزاج اللطيف وأوقات الرواق والأصيل. فمن منا لا يحب الطرب المصري الذي عرفناه بأصوات مثل: أم كلثوم، الشيخ إمام، فايزة أحمد، شادية، سيد مكاوي، وعبد الحليم حافظ.
في إحدى ليالي ديسمبر (كانون الأول) الباردة من العام 2019، كنت في إحدى جلسات الطرب والسمر التي تضم أصدقاء مقربين لمن هم بعمر والدي. وحين طلبت من العواد عزف أغنية «قولوا لعين الشمس» لأبدأ بغنائها، التفت إليَّ العم هشام ضاحكًا مبتهلًا، ثم قال: أتعلمين حكاية هذه الأغنية؟ من ولمن كان تأليفها وغناؤها؟
كلنا آذان صاغية شغفًا لمعرفة تفاصيل هذا الإرث الطربي الدافئ، الذي استمعنا له مرارًا ودائمًا ما اقتحم عواطفنا. وأعتقد أن الكثير من القارئين لهذا المقال ينجذب لهذه القطعة الطربية، خاصة أنها تذكار لعبق الماضي حين كانت ترددها الأمهات صباحًا «يا حمام، يا حمام، طير قبله قوام يا حمام» أثناء القيام بأعمال المنزل، ولربما هذا هو السر وراء حب الطرب كونه يحمل الحنين لعبق الماضي الذي كان حاضرًا بأمهاتنا.
بدأ العم هشام قائلًا إن تلك الأغنية لم تكن عاطفية كما تعلمون، بل خلفها قصة سياسية، وهذا ما علمته أثناء تصفحي أحد المواقع. إليكم القصة والجذور الحقيقية والانتماء الوطني الخالص لمؤلف هذه الأغنية.
عند سماع هذه الأغنية لن يخطر في ذهنك أن أصل كلماتها والهدف الحقيقي منها تمجيد أحد الشباب المصريين الذين تصدوا للإنجليز بداية القرن العشرين، والذي استشهد شنقًا.
في قرية دنشواي إحدى قرى مركز الشهداء التابع لمحافظة المنوفية في جمهورية مصر العربية، كان قاضي المحكمة المصرية هو بطرس غالي المعروف بتعاونه وعمالته للإنجليز آنذاك، وجده الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، بطرس بطرس غالي.
هذا القاضي تولى إصدار الأحكام الجائرة بحق فلاحي قرية دنشواي، وخاصة بعد موت أحد الضباط الإنجليز الذي كان برفقة زملائه يصطادون الطيور قرب دنشواي في مكان يبعد ثمانية كيلومترات عنها. فأصابوا فلاحة وأحرقوا كومًا كبيرًا من الحنطة المحصودة، فلما احتج الفلاحون على ذلك ورموا الإنجليز بالحجارة، حصل هرج ومرج وإطلاق نار على الفلاحين، ليُصاب أحد الضباط بضربة شمس ويموت بعدها، وبذلك اتهم الإنجليز أهل القرية بقتله.
وعلى أثر هذا نفذ بطرس غالي الإعدام بحق أربعة من الفلاحين في قرية دنشواي وتعذيب وسجن عدد كبير من أبناء القرية ظلمًا، إذ نُفذ الحكم بحق الفلاحين من قرية دنشواي، بطريقة وحشية فاقت كل ما يتصوره العقل، من وسائل التعذيب، وكان تنفيذ حكم الإعدام في اليوم التالي من صدور الحكم، وفي المكان والزمان الذي مات فيه الضابط الإنجليزي. ليكافئ الإنجليز بطرس بتوكيله حقيبة وزارة الحقانية (العدل) ليصبح بعد ذلك رئيسًا للوزارة المصرية عام 1910.
وبهذا بدأ الشعب المصري ينظر إلى القاضي بطرس غالي ومحكمته الصورية بكل استهجان واحتقار، بوصفه عميلًا للإنجليز.
الشاب المصري الشريف «إبراهيم نصيف الورداني»، وهو مسيحي حامل شهادة الصيدلة من سويسرا، والذي بلغ من العمر حينها (24 عامًا). دفعه ما حدث إلى اغتيال رئيس وزراء مصر بطرس غالي بخمس رصاصات في عام 1910؛ ليقع قتيلًا أمام ديوان وزارة الخارجية.
وبعد توقيفه تبين أثناء المحاكمة، أن ما دفعه لاغتيال بطرس غالي هو محكمة دنشواي وأحكامها الجائرة، وتوقيع بطرس غالي تمديد اتفاقية الامتياز لقناة السويس حتى العام 1968. وبذلك حكم عليه بالإعدام، وأعلن أنه غير نادم على فعلته.
وفي ليلة 18 أغسطس (آب) عام 1910، كان تفيذ حكم الإعدام بحق البطل إبراهيم الورداني، حينها انفجر المصريون في عرس جماعي، ليودعوا بطلهم الشاب المسيحي، الذي ثأر لأبناء قرية دنشواي، رافضًا للاستعمار وعملائه، مرددين في إيقاع غنائي من تراثهم الشعبي: «قولوا لعين الشمس ما تحماشي.. لحسن غزال البر صابح ماشي» في حين أن الإنجليز أصدروا قرارات مجحفة بحق كل من يعترض أو يهتف لصالح الوطنيين بأي شكل.
إبراهيم الورداني، أو ما بات يعرف بـ«غزال البر»، كان يخطو بكل شجاعة إلى حبل المشنقة، وهو يهتف عاليًا من على منصة الأعدام بكل صلابة وسرمدية، «الله أكبر.. تحيا مصر.. مصر سيحررها أبناؤها الشرفاء المضحون بدمائهم».
ثم تغيرت كلمات القصيدة في منتصف الستينيات من القرن الماضي لتغنيها شادية بكل دفء وحب وأسى وشجى باكٍ، «قولو لعين الشمس ما تحماشي لأحسن حبيب القلب صابح ماشي»؛ لتصبح أغنية عاطفية ملؤها الشجن والحنين والخوف على من فارقونا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست