(1) امتهانه ﷺ رعاية الأغنام (الجزء الأول)
لم يتعوّد رسول الله ﷺ العيش عالة على غيره، وما ذاق في شبابه طعم البطالة.
بل تعجب إذا علمت أنه منذ نعومة أظفاره قبل أنْ يكمل الخامسة من عمره، كان يرعى مع إخوانه من الرضاعة! أغنام مرضعته حليمة، في بادية (بني سعد) الواقعة في جنوب شرق مدينة الطائف (وتبعد عنها حوالي 75 كيلو مترًا).
ورعي الأغنام بالنسبة للطفل لعبة (مفيدة) يتلهى بها مع رفقائه، ويمضي بها أوقات فراغه في مزاولة نشاط نافع.
والرعي بمنزلة أستاذ تربوي يعمل بجد على تشكيل شخصية الطفل؛ فيزيل توتراته النفسية، ويمرّن عضلاته ويقويها، ويكسبه معرفة وخبرة، ويصقل مهاراته في التواصل مع الآخرين، ويجدد حيويته للإقبال على الاستكشاف بحرية وروح عالية بعيدًا عن الرتابة والملل، ويجعله يعيش العالم الواقعي لا الافتراضي.
ولما بلغ ﷺ من العمر نحو 20 سنة – وهذا ما ما استقرأه العلامة العيني من مرويات ابن إسحاق والواقدي-، اختار العمل الذي يناسبه أو يستطيع أداءه بكفاءة ومقدرة، فاشتغل في رعاية الأغنام لأهل مكة، فكان يسرح معها نهاره كله، ويريحها ويبيت معها ليلاً، يرافقه زميل له من قريش – لم تذكر المصادر اسمه- ينوب عنه في حال غيابه.
وكان عمله من نوع الأجير المشترك لا الخاص؛ وهو الذي يقع العقد معه على عمل معيّن وهو الرعي، سواء تمَّ تحديد مدة لإنجاز العمل أو بدون تحديد، ويعمل بحرية تامة لا بإدارة وإشراف أصحاب الغنم، وكان له أنْ يتقبَّل أعمالًا، ويبرم عدة عقود مع عدة أشخاص، فيرعى غنم جميع المتعاقدين معه في آن واحد، ويتقاضى منهم أجرته.
وكان لهذا العمل دور كبير في صقل شخصيته الإدارية، والاقتصادية، والاجتماعية؛ لأنَّه أولًا قد زامل أصدقاء متواضعين في غير ذلّ، لا يقترفون الرذائل المستقبحة، ولا يمارسون العادات المستهجنة، فلم يصاحب أيًّا من أولئك البطَّالين الذين لا يحسنون من الأعمال سوى التفاخر بالأنساب، والتباهي بالمظاهر المادية، والاستهتار بالبسطاء.
وثانيًا: حصل على وظيفة بمرتب دوري يكفيه قوت حياته، ويؤمّن مصاريف يومه وغده؛ فيقهر به فقره، ويحيا بعزة وكرامة، ويأكل لقمة هنية من كسب يده، وأفضل الكسب ما كان من عمل اليد.
وثالثاً: الأغنام التي رعاها، من الحيوانات اللطيفة التي تتطلب من الراعي، ما يلي:
– التعامل معها بعطف ورفق، لا سيما الصغار منها والضعفاء.
– التنبُّه بكل حواسّه أنْ تضلّ إحدى الأغنام في متاهة البادية، أو يعدو عليها ذئب أو سارق، أو تسقط في حفرة، أو تهوي من على منحدر.
-الإلمام بالطب البيطري، لتجبير الكسيرة أو ملتوية الكاحل، ومعالجة الالتهابات الرئوية، والجروح، والانتفاخات، والتسمم، وغيرها.
– الخبرة بالبيئة والتضاريس الجغرافية لاختيار المسرح والمراح، وأماكن العشب، وموارد المياه، ومواقع التشميس والتبريد؛ لأن شدة الحرّ قد تقتلها.
-المعرفة بكيفية حلبها، وجزّ صوفها، وتحمُّل اختلاف طباعها وحدّتها أحيانًا، وحسن تعهدها ورعايتها، وردِّ الشارد منها، وتجميعها إذا تفرقت، وغيرها من المهام الشاقة التي تشتمل عليها هذه الوظيفة.
كان ﷺ في مهنته نموذجًا للموظف المثالي، والحافظ الأمين حتى إنه كان يلقَّب في مجتمعه بالأمين، وهم قومه وأهله، وأعرف الناس به.
ومهنة الرعي كسائر المهن تعتمد على القوة والأمانة؛ وهو ﷺ جدير بها؛ فلديه الصفات التي تؤهله أنْ يكون في مستوى المسؤولية؛ فهو شاب قوي تتوفر فيه القدرات البدنية والذهنية التي تتطلبها وظيفته، ونزيه أمين يحفظ الأغنام بعناية حثيثة، وهذا ما يتمناه أصحاب الأعمال.
وكان في الإسلام يتذكر تلك الأيام ويرويها مغتبطًا سعيدًا غير نادم أو متحسر. فقال –كما في رواية البخاري-:«ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم»، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة».
فماذا تعني كلمة «قراريط»؟ هل هي اسم موضع بمكة؟ أم مراعٍ خضراء بمساحات صغيرة؟ أم مقدار الأجرة التي يأخذها الراعي؟
سأبيِّنُ الإجابة عن هذا السؤال في المقال القادم إنْ شاء الله.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست