تُعد تركيا قوة إقليمية فاعلة في منطقة الشرق الأوسط؛ لذلك فإن لسياستها الخارجية تأثير في المنطقة.
كانت تركيا قبل فترة حكم حزب العدالة والتنمية بعيدة عن العالم العربي والإسلامي، ودورها ضعيف على المستوى الإقليمي، ومنفتحة مع العالم الغربي، إلا أن هذه السياسة تغيرت منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم عام 2002 وأصبح لها دور تلعبه في السياسة الإقليمية، وبدأ يتصاعد دورها الإقليمي، خاصة خلال فترة ثورات الربيع العربي التي كانت بمثابة فرصة لتركيا، لكن عقبة في الوقت نفسه، فقد تزايدت فرص وصول الأحزاب الإسلامية للحكم في عدد من البلدان المهمة مثل مصر، وليبيا، وتونس فهذه الأحزاب متقاربة في أفكارها مع أفكار حزب العدالة والتنمية، بالتالي يكون ذلك في مصلحة أردوغان وبروزه كشخصية قوية مؤثرة في هذه الأحزاب.
غير أن هذه السياسة سرعان ما واجهت العديد من العقبات، خاصة بعد تعسر نجاح الثورة في سوريا التي كانت تركيا تتوقع نجاحها بسرعة على غرار بقية الثورات، وتغيير النظام بآخر قريب من توجهاتها، حيث دعمت المعارضة السورية سياسيًّا، ومدتهم بالأسلحة، واحتضنت العديد من الاجتماعات التي عقدها قادة المعارضة لإسقاط النظام، كذلك عدم استقرار الأوضاع في بلدان ما بعد الثورة، وتغير الأنظمة بفترات قياسية، وعودة قوى الثورة المضادة غيرت المشهد السياسي العربي من التنمية والتطور والتحول الديمقراطي إلى صراعات وحروب أهلية، كل ذلك انعكس سلبًا على السياسة الخارجية التركية وطموحاتها.
أما على المستوى الداخلي فظهرت أزمات متعلقة بالفساد، وملاحقة المنتمين إلى جماعة فتح الله كولن، وقيام تظاهرات في عدد من المناطق التركية، وفي ظل هذه الأوضاع الحرجة الداخلية، والخارجية التي عاشتها تركيا وندائها لحلفائها لوضع حد للأزمة السورية، لم يستجب الحلفاء لذلك، وعبر عن ذلك الرئيس التركي السابق عبد الله غل قائلًا: «إن القوى الغربية لم تدعم جهد الوساطة التركية في بداية الحرب بل قامت بتقويضها»، بالتالي أدركت أنه لا يمكنها الاعتماد على الناتو لحل الأزمة السورية على غرار ما حدث في ليبيا، وتحولت تركيا إلى الوضع الدفاعي، وتلاشت فكرة الهيمنة الإقليمية والانغماس في مشاكل الشرق الأوسط إلا في الأوضاع التي تشكل خطر تهديدًا مباشرًا لتركيا.
وازدادت الأوضاع سوءًا بعد إسقاط الطائرة الروسية من قِبل مقاتلات تركيا؛ مما دفع روسيا إلى اتخاذ جملة من العقوبات خاصة الاقتصادية تجاه تركيا، وهذا أثر في الاقتصاد والعملة التركية، ومن المشاكل الأخرى التي واجهتها تركيا هي أزمة اللاجئين السوريين الذين كانوا يعبرون إلى أوروبا عن طريق تركيا الذين حاول أردوغان استخدامهم كورقة ضغط ضد الاتحاد الأوروبي خلال مباحثاته معهم بشأن الانضمام إلى دول الاتحاد، إلا أن كل ذلك لم يجد آذانًا صاغية سوى وعود غير قابلة للتنفيذ، بالتالي أصبحوا عبئًا على الداخل التركي، ووجدت أنقرة نفسها عالقة في مشاكل داخلية وخارجية دفعها إلى إعادة حساباتها ورسم سياستها الخارجية على نحو مصلحي وواقعي؛ حيث صرح بن علي يلدرم بعد توليه منصب رئيس الوزراء بأن سياسته الخارجية ستعتمد بالدرجة الأساس على تصفير الأزمات وزيادة الأصدقاء، وفي ضوء هذه الدعوات والمراجعات لإعادة رسم السياسة الخارجية التركية تعرضت البلاد إلى محاولة انقلاب عسكري فاشل في 15/7/2016 شكل ذلك نقطة تحول في مسار الأوضاع في تركيا، واتهمت تركيا عبد الله كولن المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية بأنه وراء هذا الانقلاب، وطلبت من الحكومة الأمريكية تسليم كولن، إلا أن الأخيرة رفضت ذلك إلا في حالة وجود أدلة تثبت تورطه بذلك.
وأدرك أردوغان أن حلفاءه التقليديين من الغرب لم يقفوا إلى جانبه في هذه الأزمات، بدءًا من الأزمة السورية التي وجد نفسه متورطـًا فيها وانعكست تأثيراتها على الداخل التركي بعد أن أصبح بوتين هو اللاعب الوحيد، وانحسار الدور الأمريكي في الداخل الأمريكي خاصة خلال فترة الانتخابات الأمريكية، ودعم الولايات المتحدة لوحدات حماية الشعب الكردية وخوف أردوغان من إقامة كيان للأكراد في شمال سوريا، بالتالي سارع بتغيير السياسة الخارجية التركية بشكل يكاد يكون جذريًا؛ فقد تصالح مع روسيا واقترب منها بشكل كبير سياسيًا واقتصاديًا بعد أن كان في عداء معها بسبب اختلاف الرؤى حول الأزمة السورية، كذلك بعد أن كانت تركيا تطالب بتنحي الأسد وتدعم المعارضة ضده أصبحت ترى بأن حل الأزمة في سوريا لا يمكن ان يتم من دون بشار الأسد في الفترة الحالية، وأعادت تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وقلصت دورها النشيط والاستباقي، وركزت على محاربة داعش في شمال سوريا، خاصة بعد تزايد الهجمات في الداخل التركي، كذلك من أجل إنشاء منطقة آمنة في شمال سوريا لطرد داعش أولًا، ولمنع الأكراد من تنامي نفوذهم وتأسيس كيان خاص بهم، بالإضافة إلى منع تدفق اللاجئين السوريين إلى تركيا، وإبقائهم في الداخل السوري في مناطق مؤمنة.
ولقد جسدت هذه السياسة الواقعية والتنازلات المتبادلة نهج تركيا الجديد الذي يقوم على التوافق، والعمل ضمن جهد وتنسيق جماعي دولي؛ فقد أدركت تركيا أن من مصلحتها تقليل أزمات المنطقة التي انعكست سلبًا عليها، وأن التقارب الروسي- التركي لا يعني أنه بديل عن العلاقات التركية- الغربية، بل هي ضرورة مرحلية؛ فروسيا شريك تجاري مهم لتركيا، كذلك التقارب معها ضروري لحل الأزمة السورية خلال الفترة القادمة، بالإضافة إلى أن تركيا ستعيد بناء تحالفاتها الإقليمية من جديد، كذلك العلاقات مع الغرب؛ فهي بانتظار الحكومة الأمريكية الجديدة وسياساتها في المنطقة، وإن تركيا ستكتفي في المرحلة الحالية باعتماد الدبلوماسية ولغة الحوار مع دول المنطقة خاصة إيران والسعودية والعراق ومصر دون التصعيد الإعلامي والسياسي.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست