تميز الشيعة في أغلب مراحل تاريخهم كرمزية اعتدال في الإسلام، لأسباب عديدة، أهمها تنظيرات أئمتهم ومعتقداتهم وسلوكهم في زمن الغيبة – غيبة المعصوم – ولعدم خروج جماعات تكفيرية منهم، وحتى في طبيعة آراءهم حول كثير من القضايا، إلا أن هناك تهمة لاحقتهم في عصور متأخرة، وفي المناطق العربية تحديدًا، يعتقد مطلقوها أنهم – أي الشيعة – لا يؤمنون بأوطانهم، وليس في قلبهم شيء من الولاء لها، خصوصًا بعد عمليات التخويف الممنهج التي صدرت ضدهم وأهمها مزعم الهلال الشيعي.
استخدمت تلك المزاعم كحجج يعتقد البعض بمنطقيتها لتهميش الشيعة أو اضطهادهم في مناطق عديدة، فمن لا يؤمن بوطنهِ لا حقوق لهُ فيه، على الرغم من أن معظم الشيعة لم يتبنوا خطابًا للتوسع السياسي على أساس الانتماء الفرعي أو عبور الحدود – على الأقل بشكل صريح – بالرغم من أن هناك جماعات أخرى تتبنى مثل هذه المفاهيم بشكل واضح وصريح، ولكنهم لم يلاقوا شيئًا مما لاقاه الشيعة، كالقوميين العرب على سبيل المثال.
لا أنكر شخصيًا بأن هناك مجموعة من الشيعة باتت تعتقد بحمل الهم السياسي بصيغة مذهبية، أو العكس، بل أجد أن هناك منهم من صار يفضل مصالح معتنقي مذهبه من خارج وطنه على مصالح أبناء وطنه من غير معتنقي مذهبه، وإن كنت أعتقد أن هذا تولد نتيجة التخويف من الشيعة، إذ من الطبيعي أن يشعر إنسان بالتهديد إذا تم التحذير منه، وبالتالي توجه بعض الشيعة لتبني سياسات تمثل مصالح الشيعة والتشيع لا الأوطان، كرد فعل لحماية أنفسهم من التهديد الذي شعروا به، بالإضافة إلى أن هناك سياسات ومصالح إقليمية كانت تحرض الشيعة لتبني مثل هذا الرأي.
بلا شك أن تأسيس محاور سياسية محشوة بعقائد مذهبية عابرة للحدود، ملحقة بتدخلات دول بشؤون دول أخرى، تحت ذريعة حفظ الشيعة ومصالحهم، كان من معززات النظرة التي ترى الشيعة لا يؤمنون بهوياتهم الوطنية ولا يعترفون بحدود بلدانهم، مع أن ذلك لا يتوافق مع خطاب المدارس الكبيرة لدى الشيعة.
الخطاب السياسي لحوزة النجف – التي تعد أهم وأعرق المدارس الشيعية – ومرجعيتها الأعلى المعاصرة، قد يكون مستغربًا إذا روقب جيدًا، على وجه الخصوص مثلًا، خطابها السياسي في الشأن العراقي، لم يقتصر يومًا على شيعة العراق وحدهم، حتى في المناداة بالحقوق وتمثيل المصالح، كان خطابًا يشمل كل مكونات العراق بتنوعها ويدعو لمصالحه كدولة مستقلة معترف بحدودها وسيادتها، على الرغم من أنها مرجعية للشيعة وحدهم!
وما يثير الاستغراب بشكل أكبر في خطابها السياسي، هو ما يشعرك أنها مرجعية تنتمي للعراق، فخوضها بتفاصيل شؤون العراق لا يمكن أن ترى حتى ما يقرب خمسه مع أي بلدٍ آخر، مع أنها مرجعية يرجع دينيًا لها شيعة من كافة الجنسيات والقارات، وهو ما قد يمكِّننا من القول إن المرجعية تعتقد بالمواطنة وتعترف بالحدود، على الأقل في عصر الغيبة الذي يتطلب تعاملًا مختلفًا كما يعتقد أغلب الشيعة.
كان لابد عن إدراك حقيقة أن الأوطان ذات التنوع المكوناتي، لا يمكنها أن تحقق تقدمًا إذا انعزل كل مكون عن الآخر، واذا تمت إدارتها بشكل بيوتات متفرقة، خصوصًا إن لم يتفقوا فيها على مصالح موحدة أو هوية جامعة، وهو ما يؤدي بالتلازم إلى عدم تحقيق تقدم لأي من هذه المكونات، حتى وإن عمل كل مكون لخدمة نفسه، لأن الحقوق لا يمكنها أن تستوفى بهذا الشكل إطلاقًا.
في 2021 أطلق السيد عمار الحكيم مفهومًا أطلق عليه «الوطنية الشيعية»، ونظّر إليه باعتباره مفهومًا يرسخ انتماء الشيعة لأوطانهم ويعزز ولائهم لدولهم، ويبعدهم عن تنظيرات أممية عابرة للحدود. يرى هذا المفهوم، أن الشيعة جزء رئيس من أوطانهم، ويدعوهم ليؤمنوا بمواطنتهم. هو أيضًا ينظر أن التصدي السياسي للشيعة لا يمكن أن يكون بصفة مذهبية بل على أساس وطني وبوصفهم بناة دولة، ويرفض أن يقتصر تمثيل وخطاب السياسي الشيعي على الشيعة، بل يعتقد بوجوب أن يكون شاملًا كل مساحة الوطن بتنوع واختلاف مكوناته، مثلما يمنعهم من تلقي أوامر من خارج الحدود تحت أي ذريعة حتى وإن كانت حفظ الشيعة ومصالحهم، وهو ما يدعو بالتلازم لسلوك مماثل من قبل بقية المكونات.
الوطنية الشيعية، لا ترى أن الشيعة مشروع سياسي، بل تراها عقيدة، وهي لا تدعو لتفضيل الهوية المذهبية على الوطنية، مثلما لا تدعو إلى العكس؛ لأنها لا تعتقد أن هناك تعارضًا بين الانتماء العقيدي والانتماء الوطني، ولكل منهما أدوات وسلوك ومساحة لا علاقة لها بالأخرى، ويمكن أن تترسخ الوطنية الشيعية ضمن مفهوم الهوية الوطنية الجامعة، مثل بقية الهويات، فيكون للتشيع كعقيدة؛ مساحة مختلفة لا علاقة لها بالحدود، ويكون الشيعي والشيعة كفرد أو مجتمع محدد بظرفه الجغرافي وانتمائه لحدود بلاده.
عراقيًا.. يذهب الحكيم ونظريته إلى أن حقوق الشيعة لا يمكن أن تستوفى إلا بصفتهم كمواطنين، ولا سبيل حل لهم إلا بتبنيهم لحقوق العراقيين جميعًا دون تمييز. وأن شيعة العراق يمكن أن يتمسكوا أكثر من غيرهم بمفهوم الوطنية الشيعية لأسباب أهمها؛ إن تشيعهم منسجم تمامًا مع جغرافيا وتاريخ العراق، ولأنهم تخلصوا من الأنظمة التي كانت تهدد وجودهم، وتحتكر الوطنية لغيرهم.
عمومًا تهدف الوطنية الشيعية إلى حل مشكلات أساسية، فهي تؤدي بشكل مباشر إلى الإيمان بالدولة مما ينتج استقرارها ويحقق تقدمها، بالإضافة أنه يمكن لهذا المفهوم أن ينهي التهديد والتخويف الذي يثار ضد الشيعة ويرفع من تهميشهم، وبالتالي يمكّنهم من استيفاء حقوقهم كمواطنين مثلهم مثل شركائهم في الوطن. وبلا شك فإن الوطنية الشيعية يمكن أن تعد فلسفة متجددة، لنظريات الشيعة في الانتماء والولاء والحكم!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست