تُعرَّف الشورى بأنها طلب الرأي ممن هو أهل له، أو هي استطلاع رأي الأمة أو من ينوب عنها في الأمور العامة المتعلقة بها([1])، وعليه فقد اتخذ المسلمون الشورى أصلاً وقاعدة من أصول الحكم وقواعده، وعليها قام ترشيح العدول من المسلمين لمن يرونه أهلاً للقوَّة والإمامة لتولِّي أمرهم؛ ومما يؤكِّد ذلك ويؤصِّله أن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يترك نصًّا مكتوبًا ولم يستخلف أحدًا ليتولَّى إمامة المسلمين، وإنما ترك الأمر شورى بينهم، وقد روى أبو وائل قال: قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا تستخلف علينا؟ قال: «ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف، ولكن إن يُرِدِ اللهُ بالناس خيرًا فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم»([2]).
لكن من هُمْ أهل الشورى؟ أو أهل الاختيار؟ أو كما قال عنهم فقهاء المسلمين ومؤرخوهم: أهل الحل والعقد.
أهل العقد والحل
هناك اتفاق بأن الشورى في الإسلام منوطة بفئة من المسلمين يُطلق عليهم أهل الشورى (الحلِّ والعقد)، وقد تحدَّث الفقهاء عن ضرورة توافر بعض الشروط فيهم؛ وهي: العدالة، والعلم، والرأي، والحكمة. ومن ثَمَّ يمكن إجمالهم في «العلماء والرُّؤساء ووجوه النَّاس الَّذين يتيسَّر اجتماعهم» ([3]).
لذلك كانت الشورى من الأمور الضرورية الملحة التي يفرضها الإسلام على ولاة الأمور، ويمكن القول: إنها من أهم المظاهر الحضارية التي أسهم المسلمون في إيجادها وإرسائها في المجتمع الإسلامي، وتأثر بها الآخرون، خاصة في أوربا منذ القرن الثالث عشر الميلادي، ولذلك كانت الشورى نوعًا من التعبير عن الإرادة الإلهية؛ استنادًا إلى ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أُمَّتِي لاَ تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلاَلَةٍ» ([4]).
ويهمنا أن نلاحظ أن الخليفة في الإسلام لا يمكن أن يُعطي لنفسه حق التعبير عن الإرادة الإلهية، أي أنه لا يملك أن يُصدر تشريعًا؛ لأن سلطة التشريع لجماعة المسلمين أو مجموع الأمة([5])، وهذا بالطبع في حالة غياب نصٍّ صريح قطعي الدلالة من القرآن والسنة.
ومن هنا نرى أن تقتضي الشورى استشارة صاحب الأمر أشخاصًا يتمتعون بصفات معينة، ومن هذه الصفات، الذكاء، والفطنة، والتعقل، وسداد الرأي، وكتمان السر، فمن الخطأ استشارة شخص متخاذل ولا يمتلك المعرفة، ومن الأفضل أن يكون المستشار مدركًا بصورة معمّقة للمجتمع وكل ما يدور حوله، فليس من الصواب مشورة رجل طاعن في السن عفا عليه الزمن وخاصة في الأمور والقضايا الخاصة بالشباب، وللشورى أهمية بالغة، ومن المهم معرفة أنّ هناك فرقًا كبيرًا بين نظامي الديمقراطية والشورى.
أهمية الشورى
تعتبر الشورى أصلاً من الأصول الأولى للنظام السياسي الإسلامي، بل امتدَّت لتشمل كل أمور المسلمين؛ وتأسيسًا على ذلك فإن الدولة الإسلامية تكون قد سبقت النظم الديمقراطية الحديثة في ضرورة موافقة الجماعة على اختيار مَنْ يقوم بولاية أمورها ورعاية مصالحها وتدبير شئونها؛ ممَّا يؤكِّد قيمة وفاعلية الإجماع عند المسلمين([6]).
ونرى أيضا من أهميتها: حفظ المجتمع من القرارات الخاطئة، فالمشورة توفر الفرصة للاستماع لآراء أهل المعرفة والحكمة والخبرة، ومناقشة الآراء المطروحة لتصويب مواطن الخلل بها وتنميتها، وتتيح الفرصة لاختيار آراء واقتراحات توفر خير أكبر للمجتمع. في المشورة ترفع عن الأوامر وجبر للخواطر، وخاصة لأصحاب الخبرة، كما أنها تحمي أصحاب الأمر من الإعجاب بالنفس والغروب. نجاة من المصائب، والحفاظ على رضا الأغلبية العامة من الشعب.
أدلة أهمية الشورى في القرآن
يستدل علي أهمية الشورى بالقرآن والسنة، أما القرآن فقد وردت فيه آيات صريحة تذكر الشورى وتدل علي أهميتها.
أمر الله سبحانه وتعالى رسوله مشاورة أصحابه في قوله: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» [آل عمران: 159].
وتبدو أهميه الشورى حيث إن الله عز وجل أمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالأخذ بها وهو في غنى عنها لأنه مسدد بالوحي وموفق من الله عز وجل بالنبوة والرسالة لكنه أمره بها حتى يأخذها أتباعه من بعده ويطبقونها في حياتهم العملية فقد أمره ربه بقول: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران: 159].
ومن أهميتها أن الله عز وجل وصف بها المؤمنون (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [الشورى: 38] فقد ذكرها القرآن الكريم بين فريضتين وركيزتين من ركائز هذا الدين هما فريضتا الصلاة والزكاة، وهذا يدل على مكانتها وأهميتها في الإسلام بل إن القرآن الكريم سمى سورة كاملة باسمها هي سورة الشورى.
يرى الشيخ محمد عبده أن في قوله تعالى في سورة آل عمران (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون) [آل عمران: 104]، دليلًا أقوى، على وجوب الشورى، من الدليل المستمد من الآيات السابق ذكرها، وهو يقرر ذلك ببيان أن آية سورة الشورى تبين أن التشاور في الأمور وصف ممدوح عند الله تعالى، وأن آية سورة آل عمران الأخرى (وشاورهم في الأمر) توجب على الحاكم المشاورة، ثم يستدرك قائلًا: « ولكن إذا لم يكن هناك ضامن يضمن امتثاله (أي الحاكم) للأمر فماذا يكون إذا هو تركه؟ وأما هذه الآية فإنها تفرض أن يكون في الناس جماعة متحدون وأقوياء يتولون الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو عام في الحكام والمحكومين، ولا معروف أعرف من العدل، ولا منكر أنكر من الظلم([7]) .
أدلة أهمية الشورى في السنة النبوية
لم يترك الرسول عليه السلام نصًّا مكتوبًا ولم يستخلف أحدًا ليتولَّى إمامة المسلمين، وإنّما ترك الأمر شورى بينهم، وقد روى أبو وائل قال: قيل لعلي بن أبي طالب: ألا تستخلف علينا؟ قال: «ما استخلف رسول الله فأستخلف، ولكن إن يُرِدِ اللهُ بالناس خيرًا فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم»([8]) .
فنجد أن السنة النبوية زاخرة بالأمثلة العملية لاستشارة الرسول صلى الله عليه لأصحابه حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: «ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم» ومن ذلك استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الخروج يوم بدر، وفي المنزل الذى ينزل عندها، وفي الخروج أو البقاء في المدينة يوم أحد، وفي مصالحة بعض الأحزاب يوم الخندق علي ثلث ثمار المدينة، وغير ذلك كثير([9]).
ومن هنا نرى أن هذه السنة العملية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تستفاد قاعدة عامة مؤداها أن الحاكم أو الإمام يستشير الأمة- أو أولى الرأي فيها- فيما يحتاج الوصول إلى قرار بشأنه في تبادل الآراء، وذلك في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاصر على الأمور التي لم يكن فيها وحي بفعل أمر معين أو تركه فإن ما كان محلا لوحي فلا مجال للمشاورة فيه، أما بعد عصر الرسالة فإن الشورى قد تمتد حتى تغطي تلك المسائل المنصوص على أحكامها إذا كانت المناقشة خلال الشورى ترمي إلى الوصول إلى اتفاق على فهم ملائم- لظروف الوقائع أو الزمان أو المكان – لتطبيق النصوص بالإضافة إلى شمول الشورى – بطبيعة الحال- لتلك الأمور التي لم يرد فيها نص معين، أي الأمور التي تركت للاجتهاد.
ومن هنا نستخرج عدة فوائد للشورى وأهميتها في الإسلام
للشورى فوائد عدة ولكننا هنا سنقتصر على بعضها وعلى أهم الفوائد وهي كالتالي:
– إن الأخذ بالشورى يعتبر عبادة وتقربًا لله عز وجل وتنفيذًا لأمره سبحانه وتعالى: «وشاورهم في الأمر» رغم أن الأمر هنا موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم الا أن أتباعه مأمورون أيضًا بانتهاج نهج رسول الله عليه وسلم.
– ومن فوائد الشورى: أن أفراد المجتمع المتشاورين يشعرون بالانتماء إلى هذا المجتمع وأن أمر المجتمع هو أمرهم وأمنه واستقراره هو جزء لا يتجزأ من مهامهم ومسؤولياتهم.
– بالشورى نشجع الإفراد على التفاعل الإيجابي والتحلي بروح المسؤولية تجاه القضايا التي تهم المجتمع.
– وفي الشورى تتضافر الجهود وتتوزع المسؤوليات ونضع الفرد المناسب في المكان المناسب، وبهذا نستغل طاقات الموجودة في المجتمع ونتخلص من الطاقات العاطلة وهو بحد ذاته تنظيم للأمور.
– إن في الشورى بذل الوسع والأخذ بالأسباب والتوكل على الله عز وجل ومن فوائد الشورى تلاقح الأفكار وتتنور الآراء وتتقارب وجهات النظر حتى نأخذها أحسنها.
– كما أن من فوائد الشورى تمتين علاقة الصف المسلم بعضه ببعض فتقوى شوكتهم فلا يصيرون طمعًا للأعداء المتربصين بهم.
– وفي الشورى والمشاورة وتبادل الأفكار واحترام الرأي يحصل تآلف القلوب.
– كما أن هناك فائدة عظيمة وجليلة من الأخذ بالشورى وهو المساهمة في بناء الدولة وشكلها وإرساء قواعدها.
[1] جعفر عبد السلام: نظام الدولة في الإسلام، وعلاقتها بالدول الأخرى ص199.
[2] رواه الحاكم في المستدرك: كتاب معرفة الصحابة ، باب أبي بكر الصديق (4463)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[3] النووي: المنهاج 12/77.
[4] سنن ابن ماجه: كتاب الفتن، باب السواد الأعظم (3950)، والترمذي (2167)، وأبو داود (4253)، وأحمد (27267)، ومسند عبد بن حميد (1224)، والحاكم (8664)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
[5] عبدالرازق السنهوري: فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، الهيئة العامة للكتاب- مكتبة الأسرة، القاهرة 2012 ، ص122، 123.
[6] فتحية النبراوي: تاريخ النظم والحضارة الإسلامية، ط1، دار المسيرة، عمان 2012، ص24، 25.
[7] محمد سليم العوا: في النظام السياسي للدولة الإسلامية، ط6، المكتب المصرى الحديث، القاهرة 1983، ص193.
[8] رواه الحاكم في المستدرك: كتاب معرفة الصحابة، باب أبي بكر الصديق (4463)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[9] الخبر عن أبى هريرة رواه الترمذى، في سننه، في باب ما جاء في المشاورة، ج5، القاهرة 1964، ص 375.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست