الأمر لا يحتاج إلى دقة ملاحظة، فقط شاهدْ الجزء الثالث من سلسلة أفلام “ألعاب الجوع”، وستدرك وحدك مدى ارتباط الفيلم بما يحدث في مصر منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير.

فرغم توقعات البعض بأن الفيلم سيمنع من العرض في مصر تحديداً، لا يزال (The Hunger Games: Mockingjay – Part 1) متاحًا في قاعات السينما المصرية، وعدد من الدول العربية. وهو الجزء الأول من الفيلم الثالث. ويحمل عنوانًا جانبيًا، “موكينجاي”، أو “الطائر المحاكي”.

موضوعنا ليس أحداث الفيلم، بل الدروس المستفادة منه، في الأجزاء المعروضة حتى الآن، والتي يمكن إسقاطها واستعمالها عند مناقشة واقع “الثورة المصرية” الآن.

١ – الثورة لا تنتصر في الجزء الثالث:

 

قبل عام، عندما شاهدت الجزء الثاني في القاهرة بمصاحبة صديق مقرب ورفيق مشوار الثورة في السنوات السابقة، قال بينما نخرج من بوابة قاعة العرض: “يبدو وكأن الثورة ستنتصر في الجزء الثالث”.

استخدمت مقولته بعد ذلك كثيراً، في محاولة للتفاؤل بمستقبل الثورة المصرية بعد هزيمتها المؤقتة خلال الأعوام التالية لـ ٢٠١١. وكنت أعتقد، أنها مسألة وقت، بحيث تتكون موجة ثورية ثالثة، تعيد ترتيب الأمور.

في الجزء الثالث. الثورة لا تنتصر على الإطلاق، بل تعيش في حالة أقرب إلى ما يوجد في مصر الآن. سيكون من الملائم أن نصفها بالتخبط، التوهان، التشويش.

النقاشات بين الثوار، في مرحلة ما بعد تلقي الضربة الموجعة من السلطة، والتي هدت “ألعاب الجوع” على رأس الجميع، تتميز بالارتباك الكامل، الأسئلة البديهية والتأسيسية، من نحن؟ ماذا نريد؟ لماذا نثور على هذه السلطة؟ وهل نثور عليها بالطريقة الصحيحة؟ وما نتائج ثورتنا؟ وما التضحيات التي يمكن دفعها في المقابل؟ وهل نحن على ثقة من صحة المعلومات والأمور التي نعتقد بها حقاً؟

هذه الأسئلة الصعبة، والتأرجح ما بين الشعور بالغضب ضد النظام، وشعور آخر بأن الثورة عليها أن تتوقف عند هذا الحد دون مزيد من التضحيات، استغرقت من صناع السلسلة جزءاً كاملاً، لعله الأضعف درامياً، والأقل إثارة للدهشة (تماماً كما الواقع في مصر الآن)، لكن النصر، على ما يبدو، ليس سهلاً، بحيث يأتي دون إجابات واضحة عن الأسئلة السابقة!

الجزء الثالث، مهم، ضروري، حتمي، غير قابل للإلغاء، سيصيبك بالملل، سيدفعك للتفكير في أن الحل هو خطوة هجومية واحدة، غير محسوبة بدقة، قبل أوانها بفترة كبيرة. لك حرية الاختيار.

٢ – فن إخفاء الألم:

 

هذه معلومة مجانية تحصل عليها في مشاهد الفيلم الأولى، السلطة، وإن كانت تتألم لأقصى حد، فإنها حريصة كل الحرص ألا يظهر ألمها للمواطنين بشكل عام، من يقف منهم إلى جانبها، ومن يدعم الثورة.

السلطة، وإن ظهرت غبية، سخيفة، قاتلة، فاسدة، فاشلة، إلا أنها لا تزال قادرة، حتى في لحظات ضعفها، على انتقاء الكلمات بعناية، فالرئيس “سنو”، يرفض بشكل قاطع استخدام كلمة “ثوار” لوصف أعدائه. يستبدلها بـ”مثيري الشغب”، و”الراديكاليين”.

الهدف إذن، ليس أن تتألم السلطة، لأن هذا يحدث فعلاً. لكنها تخفي الألم ببراعة مستمرة. الهدف هو كشف حقيقة أنها سلطة عاجزة، غير قادرة على ضبط الأمور وإدارة شئون البلاد.

السلطة المتألمة، قد تنجح في إخفاء الألم، لكنها لن تمنع نفسها من الاندفاع وراء قرارات غير محسوبة، تبدو وكأنها عقاب جماعي للمواطنين. تلقي باللوم على كل مواطن لمجرد أنه سمح للألم بأن يصيبها. ومع كل قرار، تتسع دائرة الذين باتوا يؤمنون بالثورة ضد السلطة.

٣ – الثورة بحاجة إلى أيقونة:

 

اختيار “الطائر المحاكي” الأسطوري، الذي يردد ما يسمعه من ألحان ويكررها مرات عديدة، كرمز للثورة، واسم للجزء الثالث، جاء معبراً جداً عما تحتاجه المرحلة التي تمر بها الثورة.

إدارة الثورة مشغولة بالبحث عن رمز يعبر عنها، عن أيقونة ثورية قادرة على إلهام المواطنين، على صوت للثورة وصورة لها. رغم المصابين في المعارك، رغم القتلى خلال مراحل الصراع المختلفة، إنتاج إعلان عن الثورة ليس ترفاً، بل هو جوهر المسألة كلها.

صحيح أن هناك عملًا دؤوبًا تحت الأرض، إعداد وتدريب وتخطيط وتشبيك، لكن هذا كله غير كافٍ، دون الأيقونة التي تحتاجها الثورة.

هتاف، رمز وعلامة، أغنية، وشخصية ثورية شابة، وصور قوية تدعم أفكار الثورة. هذا ما كان ينقص إدارة الثورة لتنتقل من تحت الأرض إلى فوقها، وتصبح قادرة على المواجهة.

٤- قوة الارتجال:

 

المحاولات الأولى لإنتاج إعلان يتم تصويره بأفضل التقنيات وأجمل الصور فشلت تماماً. هنا، طرح أحدهم سؤالاً هاماً. عن نقطة القوة التي لازمت الثورة في مراحلها السابقة. كانت لديه فكرة واضحة عن أن الخطوات السابقة كلها تميزت بالارتجالية، غير سابقة التجهيز ولا الترتيب.

هذا ينطبق تماماً على الثورات في كل مكان، وعلى “الربيع العربي” تحديداً. كل الانتصارات السابقة جاءت فجأة، لم يتم الإعداد لها ولا ضبط شكلها ولا حتى اختيار توقيتها. مجرد ارتجال مستمر، حقق أفضل النتائج، أو هكذا يبدو.

الانفعال، اختلاق الصور، تكوين مشاهد صناعية غير حقيقية، ستؤدي إلى نتائج مزرية، غير مفيدة، كما أنها لا تصل إلى أي شيء.

الأمر كان بحاجة إلى قدر من الصبر، والإيمان بقوة الارتجال، السير بخطوات محسوبة، لكنها طبيعية وحرة، غير مقيدة بضوابط أو اختيارات مسبقة.

الثورة، ارتجال بشكل عام!

٥ – الثورة خدعة:

 

كما الحرب، الثورة أيضاً مليئة بالخدع. لا تنسَ أن السلطة غير نائمة، تملك هي الأخرى خطة مضادة، وتصنع للثورة ألف فخ وفخ.

بطلتنا محتارة، في الاختيار بين حبيبها الأول. وبين شريكها في “ميدان القتال”. السلطة اختطفت شريك الميدان، سيطرت على أفكاره، جعلته يتحدث بلسانها، والبطلة، لديها قدر من تأنيب الضمير، تشعر أنها السبب في أن شريك الميدان أصبح رهينة لدى السلطة. رغم كونه ينطق بلسانها وأفكارها ويعارض الثورة بقوة!

إدارة الثورة، ممثلة في رئيسة الثوار، قبلت التنازل عن محاكمة شريك ميدان القتال المختطف، في سبيل توحيد كلمة الثورة. جموع الثوار شعروا بالغضب، كيف نسامح من أساء لنا يوماً. لكنها حسمت الموقف كله، بأن التنازلات ضرورية وحتمية من الجميع بحيث تبقى الثورة على قيد الحياة.

عند نجاح عملية تحرير أسير السلطة، ولدى لقائه الأول مع بطلتنا، يحاول قتلها، فحتى هو، خلف الأسوار، ورغم الاعتقال، لم يتمكن من فهم فخ السلطة للثورة، لم ينجح في استيعاب الدرس بشكل كامل، السلطة تصنع المشهد بحيث تحافظ على بقاء الجميع ضد الجميع. الوحدة ضد السلطة تعني ثورة. والوحدة بحاجة إلى تنازلات!

٦ – إن كنا سنحترق، فستحترق معنا:

 

بإمكان السلطة أن تفعل أي شيء. يمكنها أن تقتل الجميع، أن تساوي مناطق كاملة بالأرض، لديها القوة الكافية لفعل ذلك.

لكن، مع إشعال النيران، عن عمد، فعلى السلطة فقط أن تفهم درس المرحلة الثالثة الأساسي. “إن كنا سنحترق، فستحترق معنا!”

لا تملك بطلة الفيلم، وصاحبة العبارة السابقة معلومات أكيدة عن الطريقة التي ستجعل السلطة تحترق نتيجة النيران التي أشعلتها بنفسها وأحرقت بها المواطنين. لكنها فقط لديها يقين، بأن النيران لا تتوقف، تتمدد، تنتشر، حتى أنها تلتهم مشعلها الأول.

نعم، هي تشعر بالألم لأجل الضحايا، تشعر بالغضب نتيجة الظلم الذي تمارسه السلطة، لكنها، على جانب آخر، تعلم وتفهم، أن وجود النيران، في حد ذاته، دليل على أن المعركة مستمرة. نيران بطش السلطة، وقود حقيقي للثورة.

الجزء الرابع، في العام القادم. ويبدو أن الثورة ستحقق فيه ما يشبه الانتصار. لننتظر ونرَ، ونكتشف مزيدًا من الدروس.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

ثورة
تحميل المزيد