برز مصطلح التخلف بعد الحرب العالمية الثانية مع حصول عددٍ كبير من البلدان المستعمرة على الاستقلال، إلا أن المفهوم ذاع صيته وكثرت حوله الكتابات منذ خمسينيات القرن الماضي، حيثُ تجمعت خلال تلك الفترة ما يقارب آلاف المقالات والأبحاث حول موضوع التخلف، ذاهبة في كل اتجاه ومنطلقة من محطاتٍ مختلفةٍ ومنظوراتٍ متنوعة ومتعددة حسب الرؤى الفكرية والبيئية لكل مفكرٍ وباحثٍ في إطار الوصول إلى التفسيرات العلمية والاجتماعية و النفسانية والاقتصادية للمفهوم.
إلا أن ما يهمُني في هذا المقال التعريف بالمنظور الاجتماعي للتخلف، لكن قبل البدء بالتعريف لابد من توضيح الفرق بين المفهومين ( التخلف والتخلف الاجتماعي).
أولاً:- مفهوم التخلف
يعدّ التخلف النقيض الأساسي لمفهوم التنمية، حيثُ إن الدول العربية مجتمعةً، خاصةً التي نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية لم تنجح في أن تبرز مفهوما رئيسيا للتنمية تستطيع من خلاله تحسين الواقع الاجتماعي والاقتصادي لشعوبها؛ لأنها قامت على ما يسمى بنظرية الإحلال، ألا وهو إحلال النظريات الغربية داخل البنى والبيئات العربية؛ آملاً في تحسين الواقع الاقتصادي والاجتماعي وتطبيق مفاهيم تنموية ترغبُ من وراء ذلك تحقيق إنعاشٍ اقتصادي ينعكسُ بدوره على المواطن العربي.
وأمام هذا الفشل الذي مُنيت به النخب والقيادات العربية في تحسين الواقع الاجتماعي والاقتصادي لأفرادها، فكان لابد لهذا المفهوم أن يبقى مهيمنا على الساحة العربية إلى يومنا هذا بدون وجود أيّة استراتيجيات أو حلول منطقيةٍ نابعةٍ من الداخل تحاول أن تفككك هذا المفهوم وتجد البدائل ذات الصيغ العملية في الارتقاء بالواقع الاجتماعي والاقتصادي إلى الأفضل.
مفهوم التخلف: وهو حالة سكون وبطء تصاحبُ عمليات التنمية نتيجة لعدم قدرة النخب والقيادات السياسية والاقتصادية مجتمعة في صياغة نظرياتٍ ومفاهيم ذات رؤى علمية وعملية في تحسين الواقع العربي إلى الأفضل، حيثُ إن توفر الإمكانيات والموارد المالية إلى جانب الوسائل الفنية والبشرية بدون استحالة تطبيقها على آرض الواقع لن يجدي شيئا في تحسين البنى الاقتصادية والاجتماعية للأفراد القاطنين في تلك البلاد.
ثانياً:- التخلف الاجتماعي
بعد فشل النظريات الاقتصادية في الارتقاء بالواقع الاقتصادي والاجتماعي إلى أفضل المستويات، نشأ علم اجتماع التخلف ليبحث في طبيعة النظام الطبقي الجامد، ودور الفرد في ذلك النظام الطبقي الذي اعتمد على تفضيلات ومميزات خاصة به استبعدت من خلاله دور الفرد، وأحلت محله النخبة السياسية الموروثة، التي تحتلُ مكانة سياسية داخل النظام السياسي، ليكون لها الأولوية في توزيع أية تركة لها على أفرادها؛ معللةً ذلك من منطلق الشرعية الثورية التي جاءت بها إلى الحكم، لتكون نتائجها وخيمة على الأفراد والجماعات وباقي أفراد المجتمع الواحد.
فضلاً عن انتشار الأفكار السلبية والعادات والتقاليد ذات البعد الرجعي التي أثرت بشكلٍ سلبي على المنظومة الاجتماعية والاقتصادية معا، كانت نتائجها انتشار الفقر، وارتفاع في منسوب البطالة، وهجرة إلى خارج الوطن؛ بحثا عن وظيفة أو عمل، وعمليات الاستيراد المستمرة من الخارج والتي أوقعت الدولة في حبال المديونية الغارقة، والتي عرفت فيما بعد تحت مسميات عديدة التبعية الاقتصادية للطرف الآخر بشكل مطلق، وامتدت عبر السنين لنكون تابعين لهم اجتماعيا في آدق التفاصيل، خاصة في المظهر الشخصي، وطريقة اللباس، والكلام، وغيرها من المشكلات الاجتماعية؛ نتيجة للانبهار المطلق بثقافاتهم، وأنماط اقتصادياتهم دون التفكير السوي: هل يناسبنا استجلاب هذه الأنماط أو تلك إلى واقعنا العربيّ أم لا؟
إن تعريفنا للتخلف الاجتماعي لن يكون بمعزل عن النظرة لمفهوم التخلف الاقتصادي، حيثُ إن تخلف الشعوب والأمم وسيرها في طريق مخالفٍ للطريق الذي سارت به الدول والبلدان المتقدمة نتاجا أساسيا لفشل النظريات الاقتصادية في العالم العربي والإسلامي مجتمعة، وإن توافر عالم الشخوص، إلا أن عالم الأفكار غير موجود مهمش، لا يلتفت إليه أحد، من هنا ينشأ الجهل، والفقر، والبطالة، والأمية، والانفجارُ السكاني الهائل في أوساط أبناء المجتمع العربي، والانتقال آفرادا أفرادا للعيش في المدن على حساب العيش في الآرياف فيما تعرف بالهجرة الداخلية.
ثالثاً:- المنظور الاجتماعي للتخلف
خلاصة لما سبق: إن تعقد المشكلات الاجتماعية داخل البيئة العربية وتفاقمها طيلة السنوات التي مضت بفعل المحكات الاقتصادية التي خلفتها الأنظمة العربية الحاكمة، ولعل أهمها: تبديد الثروات وسوء استغلالها، سوء استغلال الطاقة العاملة المتوافرة،اختلال البنى الاقتصادية، التبعية الاقتصادية.
ساهمت هذه المحكات بصورةٍ أو بأخرى في تردي الوضع المعيشي وانتشار الفقر والبطالة، والتزايد الهائل في أعداد السكان مما اثر على مستواهم الفكري والثقافي، فأصبح جلّ همهم تحصيل لقمة العيش وبناء مسكنٍ يأويهم، فضلاً عن انتشار الأوبئة والأمراض المعدية بفعل غياب العدالة الصحية، وتأمين حياة صحية سليمة لكل أفراد المجتمع الواحد.
أما على صعيد البنية الاجتماعية للتخلف، هناك من عددّ بعض المحكات؛ انطلاقا من الربط بين التخلف والمجتمع التقليدي، ولعل أهمها: ستاتيكية العلوم، أعني: جموديتها وبقاءها على حالها بدون أي تغيير يطرأ عليها، نمطية العادات والتقاليد، وتحكمها بالسلوك لا بالقانون، نظام اجتماعي جامد تحكمه الولاءات الحزبية، الانتقاص من المكانة الاجتماعية للأفراد، واستثناء مبدأ الكفاءة الإنتاجية في تحديد المكانة، إنتاجية منخفضة جدا.
وآخيراً لا يمكن لنا قراءة المفهوم الاجتماعي للتخلف بعيداً عن القراءة الموضوعية والدقيقة لمفهوم التنمية الاقتصادية، أيّ أن المفهومين يتقاطعان مع بعضهما البعض فهما عناصر تكميلية لا يمكن لأي عنصر أن يستغني عن الآخر.
ولهذا يجب أن يكون هناك إجراءت عملية للتخفيف من ظاهرة التخلف الاجتماعي في الواقع العربي، حتى يتمكن من خلالها الأفراد بشتى تخصصاتهم وعلومهم وآفكارهم من تحقيق نهضة فكرية وعلمية تنهض بالواقع المجتمعي إلى أفضل المستويات منها:
- النهوض بالواقع الاقتصادي على أساس استثمار الموارد والامكانيات وتوظيفها في خلق بنية اقتصادية يكون عنوانها العمل، وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
- احترام الفرد والعمل دوماً على تسهيل كافة الفرص والامكانيات والوسائل؛ ليكون عاملاً مبدعاً منتجاً قادراً على خلق المزيد من الثقافات والعلوم التي تسعى إلى إحداث تغيير ثقافي بديل عن العادات والتقاليد السلبية.
- إنشاء العديد من البرامج التوعوية حول أهمية تنظيم النسل، وأن قيمة الإنسان ليست في كثرة إنتاجه الجنسي بقدر قدرته على الاهتمام به، وتوفير عناصر السلامة والعيش الرغيد، كتوفير التعليم والقدرة على علاجهم الصحي.
- استبدال العادات والتقاليد السلبية الموروثة بالعلوم الصحيحة، والتي تنشئ الأفراد على أساليب جديدة في التفكير والسلوك.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست