يعدّ موضوع العولمة الاجتماعية إحدى المواضيع الهامة التي شغلت آذهان الكثيرين من الباحثين المتخصصين في حقل العلوم الاجتماعية، لاسيما علم الاجتماع الذي يهتم بتفسير طبيعة التغييرات، وأنماط العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد.
لا نستطيع أن ننكر التقدم التكنولوجي الذي أحدثته العولمة في القرن الحادي والعشرين، وما شهده العالم من تطوراتٍ هائلة في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات التي أصبح معها العالم أشبه بقرية صغيرة، لكننا في المقابل لانستطيع أن ننكر الإشكالات التي أحدثتها العولمة الاجتماعية، والتي جعلت الأسر العربية، أمام امتحانٍ صعب وكبير في كيفية تربية أبنائهم التربية الصحيحة التي تحصنهم من الانزلاق في مغريات ما يعرض، وما يسمع، وذلك من خلال تقوية الوزاع الديني لديهم، وتعريفهم الصحيح من الخطأ، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار قوة التكنولوجيا والإعلام المرادف لها في البيئة العربية والإسلامية، والتي لعبت مع بدايات القرن الحادي والعشرين دورًا رئيسا في عملية التوجيه للأبناء كبديل رئيس عن عملية التنشئة الاجتماعية التي تعد العنصر الهام والرئيس في بناء شخصية الطفل وتوجيهه الوجهة السليمة.
ما يهمنا في هذا المقال على وجه التحديد عنصران رئيسان وهما:
- التعريف بالعولمة الاجتماعية.
- الآثار الناجمة عن العولمة الاجتماعية على القيم الأسرية.
أولًا: العولمة الاجتماعية
أريد في هذا التعريف أن أبدأ من فرضية مؤادها: أفرض العولمة الاجتماعية على البيئة العربية هدف في حد ذاته، أم جزءٌ من أطروحة ما تبقى من الاستعمار؟ ولعل هذه المقولة تدفعني إلى الانطلاق بأنها ملحق رئيس من ملاحق الاستعمار الحديث، والتي تقوم على مبدأ: «يجب إخضاع النفوس بعد إخضاع الأبدان»، أيّ أن إخضاع الأبدان يتم بالمدفع، بينما إخضاع النفوس يتم بالتعليم والثقافة.
لقد أدرك الغرب أهمية الجانب الاجتماعي للعولمة عبر تبنيهم استرتيجيات أكثر شمولية وتـأثيراً، ألا وهي إخضاع النفوس بالتعليم والثقافة.
لعل «زبغينو بريجنسكي» مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق لشئون الأمن القومي من أوائل الذين دعوا إلى تبني استراتيجية الإعلام؛ لفرض التأثير، ونشر القيم الأمريكية منذ عام 1979؛ فقد كتب معلقًا في ذلك العام على أطروحات الزعيم الإيراني الراحل «الخميني» عندما حاول الأخير اعتماد القطيعة مع الغرب، وبناء جدار متين؛ يحصن المواطن الإيراني من الغزو الثقافي الغربي قائلًا: «فليحاول الخميني ذلك، ولكن ليعلم أن التكنولوجيا الامريكية سيكون بمقدروها في غضون سنوات عديدة، إقامة جامعة أمريكية لتعليم وتدريس الطلاب الإيرانيين وهم في بيوتهم في أصفهان وطهران وقم، بدون أن يكون هناك حاجة لإرسال مدرسين أو حضورهم إلى أمريكا، ولن تستطيع السلطة الإيرانية التأثير في هذه العملية».
وتأسيسًا على ما سبق فإن العولمة الاجتماعية هي نتاجٌ لفرض معادلةٍ جديدة مفاداها: أن الغرب قادر على تنميط المجتمعات العربية، تحت أساليبٍ، وححجٍ، وذرائع وهمية؛ يرادُ منها تحسين واقعهم المعاش والانتقال بهم من التخلف إلى الحضارة، ومن البدواة إلى التحضر، تحت شعارات الحرية والتحرر والاختلاط والإباحية المطلقة، والتصور الخاطئ لمفهوم المرأة، وإطلاق العنان للشهوات بدون أيّ قيود أو حدودٍ من شأنها أن تخلق واقعًا جديدًا مغايرًا للواقع العربيّ المحافظ الذي اعتاد عليه أبناؤه منذ سنوات مضت.
ثانياً: الآثار الناجمة عن العولمة الاجتماعية على القيم الأسرية
لا ننكر الدور الإيجابي للعولمة، وما أحدثته من تغييرات إيجابية في البيئة العربية، لكن في المقابل آثرت سلبًا على الأسرة العربية، بل أحدثت خللًا في منظومة القيم الأسرية؛ نتيجة للفهم الخاطئ من قبل الأسر العربية، التي ربما اعتادت على نمطية وصيغة كانت تحتفظ بها سابقًا، ومع مجئ العولمة، وما تبعها من تحولاتٍ مفاهيمية، كالحرية، والتحرر، والانفلات، والخصوصية التي تحكمها في الغالب حالة أشبه بالانغلاق المحكم على الذات، لابد أن يؤثر سلبا على طبيعة العلاقات الأسرية التي اعتادت على صيغٍ مترابطة من الوئام، والمحبة والترابط والتكاتف والتعاون، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدر الإمكان، والانضباط الذاتي في العلاقات التحكمية بين بني البشر أنفسهم، سواء في العلاقات مع بعضهم البعض أو مع غيرهم، فضلًا عن ثقافة الاحترام، والفهم الصحيح للحرية، المنطلق من مبادئ الوعي والإدارك، إلى بناء مجتمع متكامل مترابط يمتلك القواسم المشتركة؛ لإعادة بناء ذاته على قاعدة التكيف والتغيير الاجتماعي الإيجابي البناء بدلًا من استيراد نماذج اجتماعية مستوحاة من الغرب، لا نحسن استيعابها والتعامل معها.
لعل أهم الآثار الناجمة للعولمة الاجتماعية على القيم الأسرية تكمن في الآتي:
طبيعة العلاقة بين الأسرة والأبناء
استطاعت العولمة الاتصالية كسر الحواجز الاجتماعية بين الأسر العربية، وانتفت معها روابط تبعية الابن لأسرته، بل لعائلته، بل أصبح تابعًا بدون قيدٍ أو شرطٍ لعالمٍ آخر، ألا وهو عالم الإنترنت والعولمة، يقضي وقته الطويل بعيدًا عن أسرته، بل قد يلجأ في غالبية الأحيان إلى بناء علاقات وروابط اجتماعية مع العالم الآخر، ويلجأ إليهم لحل مشكلاته، وتبني جسورًا من بناء الثقة والذات فيما بينهم، لكن المهم هنا العملية التأثيرية للعولمة على الجانب الاجتماعي للأبناء، بات الأبناء يقضون أوقاتهم الطويلة على الإنترنت، بدون أن يستشعروا حجم المسئولية الملقاة على عاتقهم، بل أصبح الابن حبيسًا لغرفته ساعاتٍ طوالًا، بدون الخروج والتحدث مع الأهل، وكذلك البنت فقد أصبح لها عالمها الخاص الذي تفكر فيه، وتعتقد بأنه وجب عليها بناء شخصيتها، وذاتيتها تحت شعار الخصوصية والحرية التي أصبحت منطق العصر الحديث.
لكن الأهم من ذلك للأسف المرأة العربية التي اعتادت سابقًا على نمط معين من العلاقات الاجتماعية في إطار المحافظة، وضمن العادات والتقاليد، بل اليوم في إطار العولمة الاجتماعية، لم نر ونلحظ الزوجة المثالية قدر الإمكان، بل أصبحت المرأة العربية أكثر تحضرا من النساء الغربيات، ومواكبة لكل إصدارات العصر، وهذا من شأنه أن يؤثر سلبًا على نمطية العلاقة بين أبناء الأسرة الواحدة.
في هذا الإطار لم نكن سلبين في عملية الطرح، بل كنّا وما زلنا إيجابيين، لكن ما وصلنا إليه في هذا العصر من تردٍ واضح في فهم منظومة القيم الأخلاقية، وغياب الوزاع الديني، بل انتفاؤه من قواميس بعض الأسر تحت شعار الحرية والتحرر والانفتاح اللامحدود بعيدًا عن المحافظة، فكان لابد من مراجعة للذات، وتقييمها أولًا بأول خشية انزلاقها إلى العالم السفلي.
انتفاء الضبط الاجتماعي بين الأسر
لم تعد الأسرة اليوم في ظل العولمة الاجتماعية قادرةً على فرض سلطتها الذاتية داخل الأسرة؛ نتيجة لتعرض الأبناء لمؤثرات خارجية، أفقدتهم في غالبية الأحيان صفة الاحترام المتبادل بينهم وبين عائلاتهم، حيثُ إن تعرض عقولهم للبرمجة الاتصالية خاصة، من قبل وسائل الإعلام والإنترنت وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، أفقدتهم ثقافة الحس والشعور باحترام الآباء والأمهات، فلم يعدّ الابن يقدرّ كلمة أبيه، وكذلك البنت، لم تعدّ تفرض حسابًا لوالديها، وهنا لا أعممّ وأفرض نموذجًا مبالغًا فيه، بل كلنا نسمع ونرى ونلحظ كم حجم المشكلات الاجتماعية، والتفتت الأسري، والاضطرابات والمشكلات الاجتماعية، والتي في غالبها تعود إلى جذور متعلقة بالأبوين كليهما، ولعدم قدرتهما في ذات الوقت على صيغ نموذجٍ أسري أكثر واقعية في احترام بعضهما البعض.
التفاوت الطبقي في العلاقات الاسرية
لم تكد الأسر العربية قادرةً على الاستمرارية في تماسكها الاجتماعي، كما كانت عليه سابقًا من تلاحم وتماسك اجتماعي، تنطبق عليها قاعدة الجسد الواحد، إذا مرض عضو تداعى له سائر أعضاء الجسد بالسهر والحمى. وهذا نتيجة زيادة في الدخل، أو تمتع أفراد العائلة بالشهادات العليا، وحصولهم على الامتيازات التي تؤهلهم ليكونوا أفضل البشر علوًا ومنزلة، ومن هنا تحدث المشكلات الاجتماعية والاضطرابات بين صفوف الأسر، حيثُ ترفض بعض الأسر تزويج بناتهم أو حتى النظرة الدونية التي يتخللها الشفقة، وإن بدت أنها تخفي ملامح من العنصرية والطبقية الناتجة عن القهر الاجتماعي والوظيفي للأسر؛ كونها تتمتع بامتيازات لا تتمتع بها الأسر الأخرى، وهذا من شأنه أن يضعف السلم الاجتماعي، ويقوض دعائم الوحدة الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد.
الخاتمة
إن سلامة أيّ مجتمعٍ من المجتمعات يكمن في مدى قدرته على الحفاظ على موروثه الثقافي والاجتماعي والتكيف معه في إطار التغيير الإيجابي البنّاء، حتى يضمن ديمومته وتمسك أبنائه به.
فاستيراد الثقافات الاجتماعية وإحلالها بنماذج دخيلة، بدون فهمها، واستيعابها يضمن بلا أدنى شك عنصر التغريب لتلك المجتمعات، مما يجعلها أقرب لفقدان هويتها الاجتماعية والأسرية، التي تربت ونشأت عليها، ويجعلها عرضة لأي استيراد خارجي، مما يجعلها أممًا مستهلكة يفقد معها الانتماء، والأخلاق، والفهم الصحيح والسوي لذاتها قبل كل شيء، ويبعدها عن فلسفتها ورسالتها الدينية والإنسانية التي خلقت من أجلها.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست