وجود حدث معين؛ أدى إلى تكوين طقوس التفاعل، والتي تعد أساسًا لبناء المجموعة المجتمعية الوليدة (الميكرو) المتميزة عن غيرها، خطوة مهمة في بناء ثقافة تلك الجماعة، وصناعة رموزها، وكل ما بيّناه في المقال السابق، كان هو الامتداد الاجتماعي إلى الداخل في التركيبة البنيوية للجماعة، أو المجتمع المتكون (الميكرو)، ونمطية تميزه عن المجتمع الكلي (الماكرو)، والآن نأتي إلى النقطة الأخرى التي أشار إليها «Goffman».
ثانيًا: التفاعل نحو الخارج
وهذه تكون من خلال إنشاء سلاسل مجتمعية ممتدة عبر الزمان والمكان، ترتبط مع بعضها بطقوس التفاعل، ولها رموزها الفكرية والمادية، وتداخلها مع الجماعات الأخرى، وتميزها عن المجتمعات الكلية، أو المجتمعات الفرعية الأخرى.
تتكون هذه السلاسل بفعل تبلور المفكرين والمنظرين داخل الجماعة المجتمعية، وعمليات التنظير والتأسيس لديهم، وتتم من خلال لقاءات مستمرة على شكل «حلقات نقاشية، وندوات، ومؤتمرات بحثية، وأسواق ثقافية، ورسائل فلسفية متبادلة، واجتماعات فكرية، وصالونات ثقافية، ولقاءات تربوية، وإصدارات تعبر عن رأس المال الثقافي… إلخ»؛ وهذا بدوره يؤدي إلى تبلور الثقافة الخاصة بالمجموعة، وتحويل الرموز إلى مقدسات «نقصد هنا بالرموز المجردة باعتبارها أساليب الحياة أو نمطيتها مثل الزهد، أو التقشف في بعض الجماعات الدينية، أو الانفتاح على الاحتياجات الفسيولوجية لدى بعض الأيدولوجيات، أو بعض العبارات الترحيبية أو التلقائية لدى أفراد تلك المجموعة، مثل كلمة رفيق، أو أخ، أو حجي، أو مناضل، لدى بعض الأحزاب والجماعات المؤدلجة، أو الرموز المادية المحسوسة مثل الأشخاص، أو الأماكن المقدسة، أو الأبنية الأثرية… إلخ».
وكل ذلك يدفع الجماعة إلى تكوين رأس مال ثقافي خاص بها، يتطور اعتمادًا على طقوس التفاعل أعلاه، وخاصة بين المنظرين والفلاسفة والمفكرين، ومدى جودة وأصالة الأفكار المطروحة، وقدرة كل مثقف أو منظر على تحويل أفكاره إلى رموز،أو إنتاج رموز منها، وتصديرها إلى طقوس التفاعل الخاصة بأفراد تلك المجموعة، ويظهر ذلك واضحًا من خلال الأمثلة الآتية: «سقراط وطلابه، ثم قدرة هؤلاء الطلاب على نشر أفكارهم لدى المنتمين إلى مدرستهم الفلسفية، ومدى استمرار اللقاءات وهي طقوس التفاعل بين المنظرين أنفسهم، أي سقراط وطلابه، وبين رواد مدرستهم الفلسفية».
ومثال آخر الأحزاب والحركات المؤدلجة، حيث تبدأ الفكرة من خلال منظر أو مفكر «ماركس، ميشيل عفلق، حسن البنا، الخميني، الفكر الصوفي، تقي الدين النبهاني، روسو، مارتن لوثر… إلخ» ثم ما يلبث أن يتحول الفكر إلى طقوس للتفاعل مع مجموعة من المؤسسين، والذين يساهمون بتطوير الفكرة من خلال طقوس التفاعل الخاصة بهم، ثم تنتقل خارجيًّا لتبحث لها عن مناصرين، بعد أن يتكون رأس المال الثقافي ورموزه، وهؤلاء بدورهم يستلمون الفكرة، ويلتقون في طقوس تفاعل خاصة بهم أيضًا، وبعيدًا عن المجتمع الكلي (الماكرو)؛ وبذلك يتكون المجتمع الخاص بهم (الميكرو) ويظهر بصورة خلايا، أو أُسر، أو مجموعات دعوة، أو صالونات ثقافية، أو مجموعات خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، أو أي طريقة للتعبير عن انتمائهم وتميزهم عن المجتمع الكلي.
وهنا سيظهر المجتمع المتكون (الميكرو) بشكل منظومة جديدة في تفاعله مع المجتمع الأكبر (الماكرو)، ويحدد طبيعة هذا التفاعل ونوعيته رأس المال الثقافي المتكون لدى نخبة المفكرين والفلاسفة ورموزه؛ فإما تكون طريقة التفاعل هذه طريقة مواجهة جذرية أو بنيوية في النظرة الكلية للإنسان والوجود والحياة والأسس الثقافية لمجتمع الماكرو، وهذا يؤدي بنا إلى عدة طرق لهذه الجماعة أو المجتمع (الميكرو):
– الدخول في صراع مع المجتمع الكلي (الماكرو)، والبحث عن وجود للثقافة الناشئة، وتغلغل في البنية الاجتماعية والثقافية، ومحاولة تفكيك القديم ليتحول المجتمع الجديد (الميكرو) باعتباره بديلًا للمجتمع القديم (الماكرو) ويكون هذا الصراع بطريقين وهما:
أ. التراكم: ويتم فيه الانتشار البطيء لنمطية الحياة المجتمعية الوليدة، والدخول للأفراد داخل هذا المجتمع بشكل سلس وطوعي، ويتم التبني للأفكار من خلال طقوس التفاعل، ويعتمد مدى قوة الأفراد على تمثل الهوية الجديدة، وتبني رأس المال الثقافي على مدى تركيز طقوس التفاعل، وقوتها، وغزارتها، وديمومتها، ومدى إنتاج الرموز بأنواعها مثل تجربة ماليزيا، وحزب العادلة والتنمية التركي.
ب. الحشد والانقلاب: ويتم من خلال حشد جهود الجماعة،أو المجتمع الناشئ في مواجهة صلبة مع المجتمع الكلي (الماكرو)، وهذا يعتمد على مقدار الطاقة الشعورية التي تقدر طقوس التفاعل على توليدها لدى المنتمين للمجتمع (الميكرو) الناشئ، وقد يقود هذا إلى ثورة أو عمل في تضحية كبيرة قد تصل إلى التضحية بالمال والنفس، ومن الأمثلة على ذلك الثورة البلشفية، والثورة العمالية للحزب الشيوعي، والتطرف للجماعات الإسلامية المتشددة مثل القاعدة، وداعش، أو الانقلابات التي قادتها الحركات القومية، والثورة الفرنسية، والربيع العربي.
– محاولة التأقلم والتغيير المتدرج: وهذا يتم من خلال البحث عن بعض النقاط التي يمكن أن تكون نقطة انطلاق للتغير، ولكنها موجودة في ثقافة ورأس المال الثقافي للمجتمع الكلي، ومن الأمثلة على ذلك حركة الإخوان المسلمين، والتيارات المدنية، وقبل ذلك الأديان السماوية، والليبرالية باعتبارها ثقافة.
– الانعزال والانطواء: وتكون نتيجة حتمية للمجتمع الناشئ بعيدًا عن المجتمع الكلي (الماكرو) عندما يفشل في مواكبة ومحاورة الفكر المنتشر وثقافته السائدة؛ ويكون السبب في ذلك هو ضعف رأس المال الثقافي للمجتمع الناشئ مقارنة مع المجتمع الكلي،أو لضعف طقوس التفاعل وديمومتها،أو تركيزها وقدرتها على تكوين رموز خاصة بها.
أو تكون المواجهة مواجهة بسيطة غير بنيوية؛ ويتم فيها محاولة التكيف مع المجتمع الكلي (الماكرو)، وذلك من خلال البحث عن نقاط الاتفاق بينه وبين الثقافة السائدة والتركيز عليها، والعمل على تحويل أو إقناع المجتمع الكلي ببعض التغييرات التي من شأنها أن تولد مجتمعًا أكثر تقدمًا من منظور الثقافة الناشئة، وتعتمد هذه الحالة على قدرة رأس المال الثقافي على التعاطي والتكيف مع ما موجود من ثقافة، ومدى ومرونة تفكير النخب في طقوس التفاعل الخاصة بهم، ومن الأمثلة على ذلك التيارات التجديدية داخل المنظومات المجتمعية المؤدلجةدون الخروج عن أصل الأيديولوجيا الكلية مثل الحزب الإسلامي العراقي داخل منظومة الإخوان المسلمين، أو الرأسمالية الاشتراكية داخل منظومة الرأسمالية والعلمانية الشاملة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست