تمهيد

يهدف هذا «القول» إلى تسليط الضوء على ما يمكن تسميته بـ«ظاهرة الاحتجاج الناعم» التي أصبحت جزءًا من الأيديولوجية النضالية والاحتجاجية لكثير من المؤسسات الوسيطة باختلاف مرجعياتها وخلفياتها الفكرية والسياسية، والقصد هو الاجتهاد في تفكيك الظاهرة وفهمها مع محاولة إرجاعها إلى ما أعتقد أنه عللها وأسبابها الرئيسة، ثم بعد ذلك السعي إلى القيام برصد عام لأهم نتائجها.

ولكن قبل ذلك وجب القول إن هذه المحاولة الأولية تذهب إلى أن شيوع هذه الظاهرة وانتشارها داخل بعض التنظيمات الوسيطة يؤدي من جهة إلى توراي مشاريعها التبشيرية النهضوية، بسبب إحباطها أمام اختراق هذه الثقافة الجديدة، وهو ما سيؤثر حتمًا على بنيتها الفكرية والتصورية. ومن جهة أخرى إن هذا يؤذن في بروز الشعب كقوة احتجاجية بديلة لمجمل تلك الوساطات التقليدية العتيقة التي ضمر فيها حس النضال المبدئي، وفقدت بالتالي مصداقيتها النضاليةّ ومشروعيتها الشعبية.

أولًا: في مفهوم الاحتجاج الناعم

إن التبرؤ والتنصل من المسؤوليات النضالية المرتبطة بقضايا الشعب والوطن والأمة، مع ما يستتبع ذلك من لف ودوران في المواقف المبهمة التي هي في الأخير عبارة عن «لا موقف» ثم تبسيط العمل النضالي واختزاله إلى مجرد ثقافة شفهية روتينية (بيانات وبلاغات) علاوة على الركون إلى استنكار الفساد والتصدي له بالانقلاب على الخط المرسوم والمبادئ الموجهة والمحددة لتصورات التنظيمات التي اختارت الانحياز إلى جانب القضايا الشعبية، هو ما ندعوه هنا بـ«ثقافة الاحتجاج الناعم»!

ولعل آية «النعومة» النضالية هنا، هي في كون من يتبناها يقف في منزلة بين المنزلتين، فلا هو انساق مع خياراته وقناعاته المبدئية وانتصر لما يتلاءم مع خطه الكفاحي ويتناسب مع تصوره الفكري والأيديولوجي، ولا هو صدَق مع نفسه وانزوى وترك الأمور تسير من دون تدخله الذي لا يزيد الطين إلا بلة حين يعجز عن تقديم اقتراح ليس حلًا للمشاكل والأزمات، بل أولًا وقبل كل شيء التعبير عن موقف تاريخي خالٍ من شوائب الانتهازية والنكوص؛ وهذا أضعف الإيمان.

من الواضح أننا هنا إنما نتحدث عن مؤسسات وتنظيمات هضمت ثقافة الاحتجاج الناعم وابتلعتها وعُرفت بها، بل وهي نفسها أضحت تنظيمات ناعمة سهلة لينة مغلوبة على أمرها، متورطة بالخضوع لتقلّبات المزاج السياسي الذي يفرض عليها ليس فقط القبول بالأمر الواقع؛ بل تبريره والدفاع عنه أحيانًا، ومن السهل أن نلاحظ في عالمنا العربي أمثلة لعديد من التوجهات العتيدة (من اليمين والشمال معًا) التي أصبحت بين عشية وضحاها تنهج هذه السبل في العمل وتقنع بها.

ولما كانت هذه هي ثقافة المغلوب على أمره، والخاضع لقهر الأمر الواقع؛ فإن صاحبها عادة ما يلتجئ إلى إصباغ نوع من المعقولية والمشروعية على ردته ونكوصه وإعطائها بعض المبررات التافهة تجعلها قابلة للهضم.

لكن رغم ذلك فهل يستطيع أحد أن ينزع عنها طابعها الانتهازي المصلحي الظاهر؟

ثانيًا: في أسباب الاحتجاج الناعم

لا شك أن لهذا الوضع الكاريكاتوري العديد من الأسباب التي أدت إلى ولادته وتكوينه، وحسبي هنا أن أشير إلى ما أعتقد كونه الأسباب الرئيسة له:

أولًا: سيطرة نخبة من الوصوليين الانتهازيين اللاهثين وراء الغنيمة، نخبة تعمل على تطويع المبادئ الثابتة حتى تلائم المصلحة الآنية المؤقتة بأي ثمن، وتحشد كل الإمكانيات السلطوية والإعلامية والخطابية في تخوين واتهام كل من يشير إليها ببنان النقد، وفوق هذا فإنها لا تتحمل خطاب الجرح والتعديل لظنها أن كل ما تقوم به إنما هو الحق الذي لا يغشاه باطل، وتدافع عن نفسها بخطاب مشحون بالمظلومية والتعرض لسوء الظن وعدم تقدير جهودها الجبارة والمضنية من طرف الأتباع.

وطبعًا هذه الفئة لا تريد أن تستوعب أنه لا أحد في زمن المطالبة بالحقوق وانبثاق الوعي الشعبي، أصبح مستعدًا لسماع مزيد من أمثال هذه التراتيل البلهاء، فالخيار الذي أصبح مطروحًا هو إما اعمل أو ارحل!

ثانيًا: إن السبب الأول يؤدي حتمًا إلى سبب ثان ملازم له، ألا وهو نفور القواعد من مسلكيات القيادة وإصابتها بالإحباط عند تلقيها لأوامرها التي تستقبلها بالاستخفاف والازدراء وعدم الاهتمام، وذلك لأن جزءًا كبيرًا من تلكم القاعدة يشم رائحة النكوص النضالي والتطلع الغنائمي والاستغلال التنظيمي من طرف «قيادهم» لمصلحة ذاتها، ولا شك أن المقصود بالغنيمة هنا ليس المصالح المادية المباشرة وفقط، بل إنها لتشمل حتمًا كل المظاهر المرضية التي عادة ما تصيب الذات المسؤولة مثل حب الظهور والتطلع نحو السيادة.

ثالثًا: شيوع ثقافة التبسيط والاختزال واتباع السهل اليسير فكرًا وعملًا، مع ضمور حس النقد والاستسلام لما هو معطى وجاهز، صحيح أن النقد يجب ألا يكون من أجل النقد وكفى، ولكن النقد عندما يختفي عند الموالي والتابع ويكون مصدره الوحيد هو المعارض والمختلف مع الطرح، فإن ذلك يعني وجود خلل ما، فالنقد والتوجيه والتصحيح وقول «لا» يجب أن يكون مصدره داخليًّا قبل أن يكون خارجيًّا، وذلك أن النقد الخارجي غالبًا ما يتم تخوينه واتهامه بل واستغلاله مطية لتكريس الأمر الواقع من أجل إطالة عمر الأزمة والخلل.

رابعًا: إن غياب ثقافة النقد الحقيقي الصادق يجعل التنظيمات تعيش في مستنقع من الأوهام الداخلية التي تغشى القيادة والأتباع معًا، ولعل أكبر وهْمٍ يمكن أن ينتشر في التنظيمات الناعمة، هو اعتقادها أنها المنقذة من الضلال والهادية إلى الصراط المستقيم وأنها المبشرة ببزوغ نجم التقدم والنهضة، وأنها بشعاراتها ستغزو الزمان والمكان وتعيد للأمة أمجادها الضائعة، ولا شك أن هذه الأوهام حين تتراكم وتنمو وتترعرع، فإنها تغدو ثقافة متأصلة في لا شعور أبنائها، وبالتالي جزء من بنية التنظيم التصورية والفكرية يتم توارثه عبر الأجيال.

ولا يخفى ما بين هذه الأسباب من ترابط، وإنها هذه الأسباب لتكون بمثابة التربة التي تنبت ثقافة الاحتجاج الناعم التي ليست منافسة للنضال المبدئي فحسب؛ وإنما تقدم نفسها بديلًا له تقتات على أمجاده، والذي يستفيد في ظل هذه الثقافة ومن هذا الاحتجاج هي أولجارشية لها ملامح ثقافية ونفسية ووضع سياسي خاص أكسباها مقدرة على استغلال الغوغاء، تعينها على الحفاظ على امتيازاتها المادية والمعنوية.

ثالثًا: في بعض نتائج النضال الناعم

لنقتصر على هذه الأسباب التي تم ذكرها مع أنها كثيرة ومتعددة؛ وقد يكون من المفيد بعد ذلك الإشارة إلى بعض نتائج انتشار هذه الثقافة في التنظيمات الوسيطة.

أولًا: من أسوأ نتائج اكتساح ثقافة الاحتجاج الناعم، أنها تضع التنظيمات والمؤسسات أمام تحدي التفكك والانشطار إلى كتل ومجموعات متطاحنة متضاربة في المواقف وفي رؤية العمل؛ حيث بإمكاننا أن نرى فئة مقاومة ممانعة، وأخرى منبطحة خاضعة مستسلمة ومهادنة، تميل إلى التعايش والتأقلم مع ما تنتقد وما تُنكر، بل وأحيانًا قد يؤدي بها الأمر إلى التعاون مع جزء من الفساد.

ثانيًا: في ظل هذه الثقافة الجديدة سيكون من الطبيعي انحصار إشعاع التنظيم وانزواؤه، بحيث يصبح منطويًا على ذاته يسبح في أوهامه وخيالاته، وفي هذه الوضعية لا طمع في أن تندفع التنظيمات الناعمة إلى تنفيذ مَهامها المطروحة عليها، بل إن المهمة الرئيسة ستكون هي البحث عن تمديد عمر وجودها الذي أضحى مهددًا خاضها الوجود النضالي.

ثالثًا: وأسوأ من ذلك، وهو أن تلكم الوساطات التقليدية التي كانت تتحدث باسم الشعب وتزعم النضال المبدئي من أجله قد بدأت تفقد ليس فقط مشروعية نضالها بل الأخطر من كل ذلك، فقدها لمشروعية وجودها التنظيمي، حيث ستغدو تنظيمات زائدة عن الحاجة المجتمعية، وكل الطروحات المناوئة لقضايا وهموم الأمة والوطن والداعية إلى طروحات غريبة وعجيبة عن أولويات وخيارات مجتمعها الحقيقية النابعة من طبيعة ذلك المجتمع التاريخية والحضارية، والتي تناضل خارج هذا الإطار، هي كـ«الزبد» الذي لا نفع من ورائه.

رابعًا: إن استفحال وانتشار ثقافة الاحتجاج الناعم التي تعد موقفًا انبطاحيًا رجعيًا ولا أخلاقيًا، يؤدي إلى ضمور المشاريع النهضوية وخفوتها، وبالتالي تواري النخب الحقيقية الحاملة لتلك المشاريع ولنفس التغيير في مجتمعاتها؛ وفي المقابل يؤذن ببروز «الشعب» كقوة بديلة لمجموع النخب والتنظيمات التي لم تحترف إلا السخط والرفض والانتقاد وحربائية المواقف، ولم تتعلم إلا المناورة والتعايش مع «الأمر الواقع» من دون أية مقدرة على تجاوزه وتقديم حلول وبدائل فعالة له.

رابعًا: الشعب بوصفه قوةً نضالية واحتجاجية بديلة

عندما تتعرض التنظيمات لتراكم الإحراج الناجم عن التناقض بين الموقف السياسي والمبدأ العقدي والنضالي؛ يكون شغلها الشاغل هو البحث عن سبل النجاة بجلدها وتبرئة ساحتها حتى وإن كان ما يحدث ويجري يضعها موضع المساءلة بحكم مسؤوليتها النضالية، وهذا المؤشر وحده كافٍ ليعكس أن جزءًا كبيرًا من تلكم التنظيمات أصبحت طريقة اشتغالها عتيقة بالية، بحيث انتقلت بهموم وقضايا الأمة من مستوى التبني والالتحام المبدئي بها إلى مستوى التغني بها ليس إلا.

لكن عندما نتحدث عن الروح الشعبية فالأمر يختلف تمامًا إلى حد الدهشة والغرابة، في العالم العربي الشعب عندنا هو العبقري الوحيد، حيث بدأ في تجاوز محاور البؤس الثلاثة؛ التنظيمات الانتظارية الناعمة وجزء من النخب السياسية والمثقفة التي ناصرت الفساد وانحازت إلى خيار دعم قوى الاستبداد المتهالكة، ثم في المستوى الثالث بعض الأبواق الإعلامية المتخلفة؛ التي إما تعمل على الإحجام عن نقل الأخبار والحقائق بكل موضوعية بعيدًا عن التحيز الأيديولوجي، أو تنقل المعطيات مشوهة ناقصة مع قصف الرأي العام بالتوافه والخزعبلات التي تعمي بصيرة الناس عوض أن تسهم في تنوير رأيهم.

في هذا المستوى يمكن أن نلاحظ أن العديد من الأوهام والمخاوف قد استطاعت الإرادة الشعبية أن تتجاوزها كذلك مع هبات مع الربيع العربي، من قبيل كسر حاجز الخوف وانتظار المخلص والمنقذ، لذلك برز الشعب كقوة بديلة للعديد من القوى التي كانت تناضل نضالًا مزيفًا، لذلك يمكن القول إن المقدرة على تحريك الشعب بيد الشعب نفسه! لكن هذا لا يعني أنه يمكن الاستغناء عن وساطات الهيئات والمؤسسات، وإنما الذي يحصل هو أن التاريخ يقوم بعملية «غربلة» تامة لها، حيث ستتميز التنظيمات النابضة بالحياة القادرة على تجديد ذاتها وتطوير طريقة اشتغالها عن الطفيليات التي تعيش على الاقتيات على مطالب الشعب.

خلاصة

إن مفتاح انعتاق الأمم بيد شعوبها، فالشعب العربي الحر الأبي الذي بدأ يتنفس عبق الكرامة والحرية ويرفض الانصياع والوصاية، هو قطعًا شعب قادر على تجاوز وإحراج الوساطات المنتهية الصلاحية، أحزابًا وجمعيات ومؤسسات ونخبًا، والذي يراهن على هذا الشعب وينحاز إلى همومه ويلتحم بقضاياه ومشاكله هو الذي يكسب المستقبل، والذي يتعامل معه وهو يستبطن في لا شعوره أنه وصِيّ عنه؛ فليعلم أن مكانه الطبيعي هو أن يوضع متحف النسيان.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

الاحتجاج
تحميل المزيد