(١)

الأول من يوليو ٢٠١٠، موعد عودتي من أول أجازاتي، أرتدي الأفارول العسكري وأنا أدخل عبر “بوابة ٢ – معسكر الجلاء”، يستوقفني عسكري الشرطة العسكرية، كان يدعى “صبري”، نموذج مثالي لما ينتج من الدرس الأساسي للخدمة العسكرية “تحكيم النفس على النفس”، بدأ في المعارضة الطبيعية لي كجندي يدخل إلى المعسكر:

– هات كارنيهك، تصريح أجازتك، اقلع الكاب، وريني الشراب اللي أنت لابسه، فين أقراصك المعدنية، وريني نعل البيادة.
نفذت تعليماته كما طلبها، لم تكن لدي أي مخالفات انضباطية – أو هكذا ظننت – شعري طوله لا يتعدى ٢ مم، وملابسي عسكرية بالكامل، ولا أحمل أي مخالفات، لكنه قال لي “تعالى على جنب يا مستجد”.
انتحيت جانبًا منتظرًا ما سيؤول إليه الوضع، واحتفظ هو ببطاقتي العسكرية.

بعد نصف ساعة، كان يجاورني ما يقارب الأربعين مجندًا في انتظار الترحيل إلى “س ٨” سرية الشرطة العسكرية حتى ينظر في أمرنا ضابط منوب الشرطة العسكرية، وهناك في التحقيق بدأت عملية فرز المجندين، من سيستكمل الطريق إلى العازولي، ومن الذي سيعود إلى وحدته، وبدون التطرق إلى تفاصيل غير مهمة، كنت من الفريق الأول.

 

(١-١)

حوار بيني وبين أحد ضباط وحدتي
يا حسام، هو ليه لما نقول لعسكري يا روح أمك وياقلب أمك و يا كبد أمك ما بيزعلش ولما نقولله يا **أمك بيزعل، رغم ان ال** أهم من القلب والكبد والروح.
أضحك ويضحك الضابط.

(٢)

صباح الثاني من يوليو، أول أيام الحبس، أول أيام “العازولي”، آخر ما أذكره عني في ٢٠١٠ وما قبلها.

دخلت مع من تبقى من رفاق التوقيف الأول عند البوابة، تقلص العدد إلى أقل من عشرين مجندًا، أما باقي الأربعين، فقد نجوا، كانت أول تجربة سجن بالنسبة لي، في البداية وقفنا في ردهة مبنى قيادة السجن وخرج إلينا قائد السجن ليلقي تعليماته وضوابط غرفة الحبس.

كانت التعليمات – كما أذكرها – كالآتي: “هتدخلوا للأمانات تسلموا القايش والكاب والفلوس والشنط اللي معاكو يعني هتفضلوا بالأفارول اللي عليكو بس وكل واحد هيسحب مبلغ من الفلوس يكفيه يشتري حاجات من كانتين الغرفة هنا”.

“انتو جايين هنا عشان تقضوا كام يوم وكل واحد هيرجع كتيبته بلاش تعملوا مشاكل عشان الكام يوم ما يتمدوش لكام سنة وتقضوا بقية عمركو في الجيش” … انصراف.

في الأمانات بدأت بتسليم ما أحمله، حقيبتي، الكاب العسكري، القايش “الحزام العسكري”، السلسلة، محفظة النقود، سلمت كل شيء، ثم طلبت نقودًا من التي أودعتها قبل قليل، أخبرني العسكري مسؤول الأمانات أنني سأستلم نقود الغرفة المركزية ويتم خصمها من المبلغ الذي أودعته بالأمانات، طلبت ٢٥ جنيهًا فأعطاني ورقتين من النوع المقوى والمغلف، الأولى زرقاء مكتوب عليها بقلم تلوين أسود “٢٠ جنيه” والأخرى حمراء ومكتوب عليها بنفس القلم “٥ جنيه” وفي ظهر كل واحدة طبع شعار “غرفة الحبس المركزية – الجلاء”.

انتهينا من مرحلة الأمانات، خرجنا إلى ساحة السجن، كنت مبتسمًا في هذه المرحلة، أعتقد أنني كنت أدعي الصبر، كنت في وقتها – في ٢٠١٠ وماقبلها – أؤمن بما يسمى “التنمية البشرية”، كانت تتردد في عقلي عبارات مثل “أنت من تصنع سعادتك”، “يمكنك تحويل أي موقف سيء في الحياة إلى طاقة إيجابية”… بلا بلا بلا بلا، أفقت من هذه النداءات الجميلة المفعمة بالحياة على صوت جهوري لمسؤول السجن وهو ينادي “اجمع الانضباطي”، لم أكن أدري أنني من المقصودين بهذا النداء، ولكن العسكري ضخم الجثة، جامد الملامح، لم يترك للحيرة فرصة كي تتملكني حين وقف أمامي قائلا: “ما تجمع يا خـ*ل”.

 

 

( ٢-١ )

حوار مع أحد زملائي بالوحدة في أول أيام التجنيد:

– انتو ليه كلكو بتشتموا هنا كده؟
* هو أنت ما بتشتمش؟
– لا الحمد لله.
* ههه، كنت زيك كده، يلا بكرة تشتم.
– لا ياعم أنا مش هشتم.
* بردو كنت باقول كده، والله هتشتم.
– ليه ياعم، محدش يقدر يجبرك على حاجة وأنا قادر أني أمنع نفسي من الشتيمة.
*ياعم بس ما تبقاش واثق من نفسك كده.
– طب بص يا سيدي، مش أنت هتخلص قبلي ب ٦ شهور؟ أراهنك أني لحد ما أنت تخرج أنا مش هشتم ولا مرة.
– اشطة ياعم، وأنا قبلت، معاك ٦ شهور من دلوقتي.
*فل عليك.

 

 

(٣)

تم توزيعنا إلى مجموعات متفرقة، كانت المناطق التي يوزع عليها المساجين الانضباطي عبارة عن مجموعة من شوارع المعسكر التي يقومون بكنسها، أو الذهاب إلى محطة الإسماعيلية العسكرية لتوزيعهم في أعمال متفرقة تحتاجها المحطة، أو البقاء في غرفة الحبس ونزح مياه الطرنشات، وكان نصيبي في أول الأيام أنني ذهبت إلى المحطة لتوزيعي على مكان آخر وفق ما يحتاجون من عمال.

كان يومًا عاديًّا، قمنا بكنس شوارع نادي الضباط الرياضي، ثم عدنا إلى العازولي، تم توزيعنا في المساء على الزنازين، كل سجين لديه بطانيتين، واحدة للنوم وواحدة للتدفئة، كانت هذه رفاهية زائدة كما علمنا بعد ذلك، أغلقت علينا الزنازين في السابعة مساءً، كما قلت سابقًا أنني كنت أدعي الصبر، فاقترحت على زملاء الزنزانة أن أقرأ أذكار المساء، نمنا جميعًا قبل أن نصحو على ضجة شديدة في الثالثة فجرًا مع صوت النداء الذي سأعتاده: “اجمع الانضباطي”.

فزعنا جميعًا، خلال دقيقتين كنا وقوف في ساحة السجن، شاويش نوبتجي السجن يبدأ في التمام، بعد الانتهاء ذهبنا جميعا لنتوضأ ونصلي الفجر، بعدها بقليل نودي أن “اجمع الانضباطي”، وكان نصيبي في اليوم الثاني أيضًا “المحطة”.

هذه المرة تم توزيعي من المحطة العسكرية إلى استراحة قائد الجيش، العمل في الاستراحة ليس كما يبدو من الاسم إطلاقًا، فقد كنا مكلفين بـ”تفوير” استراحة لقائد الجيش وزراعة أشجار مانجو بعد ذلك، كان عدد العساكر “المساجين” الذين يعملون في الاستراحة أكثر من العشرين بقليل، كنا مكلفين بنزع بعض من أشجار نخيل الزينة، قصيرة الطول، من جذورها حتى يمكن زراعتها في أماكن أخرى، كما كان من واجبنا أيضا إزالة كل أحجار الرصيف الموجودة بالاستراحة وتحميلها على سيارات النقل لتذهب إلى مكان ما لا نعرفه ويتم إعادة استخدامها، الأمر الأخير أننا كنا مكلفين بتسوية الأرض ببعضها تمامًا وإزالة كل تجمعات إسمنتية على مساحة الأرض التي كان حدها الأفق، حتى تكون الأرض صالحة لوضع شجر المانجو.

كنا في الاستراحة في تمام التاسعة صباحًا، وعدنا إلى السجن بعد انتهاء هذا اليوم في تمام السادسة والنصف تقريبًا، لم يتخللها إلا استراحة بسيطة تناولنا فيها وجبة الغداء الشهية جدًّا، نصف رغيف ميري محشو بالأرز الحي، إنها لحياة طويلة.

مقدار الجهد الذي بذلته في هذا اليوم لا أعتقد أنني كنت قد بذلته قبلًا في حياتي، كنت بحاجة شديدة إلى الاستحمام، جسدي كله ملتهب، “التسلخات” تقتلني، رائحتي أكثر من عفنة، ذهبت إلى الأمانات كي أطلب ملابس داخلية من حقيبتي التي لديهم، لكنهم أخبروني أن “الضابط منعها”، حيث أن البلاعات اليوم كانت مسدودة ولم تقم المجموعة المسؤولة عن الطرنشات بعملها كما يجب، فوجب عقاب الجميع، ممنوع على أي سجين أن يأخذ أي شيء من الأمانات.

بت ليلتي بعفانتي، في الزنزانة كنت لا أزال أدعي الصبر، ولكن فضلا عن الأذكار جلست أغني “محبوس يا طير الحق”، كانت الأغاني السياسية والسينما ينهشون عقلي في محاولة التغلب أن ما أعيشه الآن هو الواقع، لا فكاك من هذا.

في الثالثة فزعنا على النداء المعتاد “اجمع الانضباطي”، طابور التمام، لم أصلِّ الفجر في هذا اليوم، لم أكن أعتقد أني طاهر، أريد أن أستحم، بالتأكيد لن تقبل صلاتي، حسنًا، جاء وقت التوزيع، اسمي مرة أخرى في المجموعة التي ستذهب إلى المحطة، ومن هناك ذهبت إلى نفس المكان، “استراحة قائد الجيش”.

بدأنا العمل في التاسعة صباحًا، كما الأمس، نكمل ما بدأناه، ننزع النخيل الباقي، نزيل الأحجار الإسمنتية، نسوّي الأرض، بنهاية هذا اليوم كنا قد حولنا المنطقة التي كانت بالأمس مبنى صغيرًا به حدائق صغيرة وأشجار للنخيل وممرات للسير، إلى أرض صحراوية واسعة، مما يعني أننا في الغد سنبدأ بزراعة المانجو، فرحنا جدًّا، فقد انتهينا من الجزء الأصعب.

عدنا إلى العازولي، اعتدت رائحتي، الالتهابات والتسلخات ليست أكبر مشاكلي الآن، الصلاة ليست مهمة، لو كان الله مطلعًا على كل هذا فبالتأكيد سيغفر لي عدم الصلاة، ذهبنا إلى الزنازين، هذه المرة ببطانية واحدة، لأن الغرفة استقبلت مساجين جدد والبطاطين لا تكفي، لا يهم، بتنا ليلتنا وفزعنا كالعادة على “اجمع الانضباطي”، تم توزيعي كما توقعت إلى “المحطة” ومن هناك ذهبت إلى “استراحة قائد الجيش”.

كان تكليفنا في هذا اليوم هو الحفر، علينا أن نصنع حفرًا قطرها “متر” وعمقها “متر ونصف” حتى نضع بها شجيرات المانجو، قُسمنا إلى مجموعات، كل مجموعة من ثلاثة أفراد، نتناوب الحفر وإزاحة الرمال، كل مجموعة مكلفة بحفر عدد من الحفر في مساحة ١٥٠ متر تقريبا – قد أكون مبالغًا لا أعرف المساحة بالضبط ولكننا انتهينا من الحفر بعد يومين من العمل – في نهاية اليوم الثالث، كان موعد مرور الضابط المسؤول، طبعا نعرف جميعًا أن الجيش يعني انضباط، كان الضابط يقوم بمشي خمس خطوات بين كل صفين من الحُفَر، جاء الدور على الصف الذي أنهيته ومجموعتي، خطا الضابط خطوة أخرى ثم قال “الصف ده ييجي هنا”، أي سنقوم بردم كل هذا ثم نحفره مرة أخرى على بعد خطوة واحدة، طلب الضابط نفس التعديل من مجموعة أخرى ومضى إلى حال سبيله تصحبه ودينه ودين أمه وأبيه لعنات العساكر.

عدنا إلى العازولي، الإحباط يقتلنا أكثر من التعب، هذا اليوم أنا فعلا أريد الاستحمام، شكوت إلى أحد المساجين، أخبرني أن أستحم ثم أقوم بغسل ملابسي الداخلية وأرتدي الأفارول “عاللحم” حتى تجف، ثم أقوم بالتبديل، كانت فكرة عبقرية لا أدري كيف لم تخطر لي قبلًا، فعلت كما قال لي، كان قد تبقى لنا نصف ساعة قبل الدخول إلى الزنازين، فوجئنا بالنداء “اجمع الانضباطي”، كان هذا طابورًا للتمام على طول “الذقن والشعر” – لا تضحك – بالطبع كإنسان لا يستحم كيف لي أصلا أن أفكر في تضييع نقودي البلاستيكية الثمينة في شراء ماكينة حلاقة، أحضر الضابط من صندوق القمامة ماكينة حلاقة صفراء ممن تمت صناعتها للاستخدام لمرة واحدة، ومر علينا واحدًا بعد آخر، من تصدر ذقنه صوتا حين يلامسها طرف “الكارنيه”، يعطيه الضابط الماكينة ويقف بجواره منتظرا منه أن ينتهي من حلاقة ذقنه بتلك الماكينة المستعملة، بالطبع لم يخل الأمر من طرائف للمجندين الذين يخدمون أصلا في السجن وهم يتندرون عن أن هذه الماكينة لفلان الذي استخدمها لحلاقة شعر مؤخرته.

 

(٣-١)

حوار بيني وبين أحد من أوقعهم حظهم العاثر للسجن معي

– أنت جيت هنا إزاي؟ مش أنت شرطة عسكرية؟
* القائد بتاعي بيكدرني عشان مش باقبض على عساكر وباعر* عليهم
– بيكدرك إزاي يعني؟
*إداني ٦٠ يوم في العازولي
– أ*ا

 

(٤)

في اليوم العاشر للسجن، وفي طابور التوزيع فوجئت باسمي أيضًا في قائمة من يذهبون إلى المحطة، كنت قد عقدت العزم أنني لن أذهب إلى هناك مرة أخرى ولو كان الناتج تحويلي إلى المحاكمة، ذهبت إلى الضابط المسؤول وأخبرته أن هذا هو يومي العاشر على التوالي الذي يتم فيه توزيعي على المحطة وأنني قد أنهكت واستهلكت تمامًا، وتحولت بشرتي إلى اللون الأسود بفعل الشمس الحارقة، وأتت الالتهابات على إحساسي بالوجع أصلًا، تعجب الضابط كثيرًا وأمسك بقوائم التوزيع وسألني عن اسمي.

– حسام محمد أحمد سرحان
– غريبة أنت فعلا اسمك نازل كل الأيام اللي فاتت في المحطة “حسام محمد أحمد”.

ثم قام بمراجعة كل الأسماء مرة أخرى لتكون الصدمة أن هناك عسكري آخر يحمل نفس الاسم “حسام محمد أحمد” وكنت أنا أذهب مكانه في كل مرة يكون هو المقصود وليس أنا، فذهبت في تكليفاته وتكليفاتي، أصدر الضابط أمرًا بحذف اسمي من كشوف المحطة لحين انتهاء مدة حبسي، وقضيت الأربعة أيام الأخرى أكنس الشوارع فقط.

 

(٤-١)

أثناء كنسي لأحد الشوارع قابلت زميلي بالوحدة.

– فاكر لما قلتلك أني مراهنك أني مش هشتم لحد ما أنت تخرج من الجيش؟
* ههههه آه
– طيب، **أم معتز و **أمين أم الجيش ويلعن مايتين **أم كل واحد ابن ستين وس** في المؤسسة بنت الم***كة دي

كانت أول مرة أستخدم فيها هذه الألفاظ في حياتي، و لم تكن – للأسف – الأخيرة.

 

(5)

في اليوم الأخير تسلمت ورقة عقوبتي للذهاب إلى كتيبتي بها، كتب بها اسمي ورقمي العسكري وتهمتي: عدم تثبيت قرص القايش.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد