التمهيد
مثلت تجربة التعاضد في البلاد التونسية سنة 1962 ولا زالت، مبحثًا مغريًا، ليس للمؤرخين فقط، بل لكل المشتغلين في حقل العلوم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. إذ لا زال إلى حد الآن فشل هذه التجربة غامضًا ولا زال كذلك علماء الاقتصاد يبحثون لإيجاد تأويلات مقنعة لتفسير فشل تجربة التعاضد.
أكد المختصون في التاريخ الاقتصادي أن تجربة التعاضد التي قام بها أحمد بن صالح خلال ستينيات القرن العشرين حققت في بداياتها نجاحًا مقنعًا غير أن هذه التجربة باءت بالفشل سنة 1969.
كانت تجربة التعاضد في تونس بمثابة البوتقة التي انصهرت صلبها عديد من التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية وكذلك السياسية. ونعني بذلك أن هذا الاقتصاد الجديد لم يعهده التونسيون سابقًا لكن هذا الاقتصاد اندرج ضمن استراتيجيات اقتصادية تهدف إلى خلق التوازن بين كل فئات المجتمع بعد الاستقلال.
وهنا يندرج مقالنا في تسليط الضوء على إشكالية سوسيولوجية واقتصادية واجتماعية. كما سنحاول في هذا المقال رصد مختلف الدوافع التي تقف وراء فشل هاته التجربة الاقتصادية.
فما المقصود بالتعاضد؟ فيم تتمثل أهداف تجربة التعاضد في تونس؟ وماهي أبرز الأسباب المفسرة لفشل تجربة الوزير الأسبق أحمد بن صالح؟
مفهوم التعاضد
بادئ ذي بدء تجدر الإشارة إلى مدلول كلمة «تعاضد» في مقالنا هذا. فالتعاضد هنا يقصد به شكل من أشكال الاقتصاد التعاوني «l’economie solidaire» وهو نظام اقتصادي يضم مجموعة الأنظمة التعاونية يسعى إلى إمكانية الوصول إلى المنتجات، بعيدا كل البعد عن نطاق الملكية الفردية وذلك ما يعرف بالملكية العمومية أو «الملكية الجماعية».
وهنا يقصد بالتعاضد مصادرة الملكيات الفردية وجعلها ملكيات جماعية (تشاركية) برعاية الدولة. وهكذا نفهم مما سبق أن التعاضد يعني الملكية الجماعية لأفراد المجتمع برعاية الدولة أي تصبح الدولة هي المتحكم الرئيسي في الاقتصاد دون سواها ويصبح المجتمع خاليا من الملكيات الفردية والمبادرات الاقتصادية الخاصة.
لماذا رفض التونسيون تجربة التعاضد؟
كما أشرنا فيما سبق أن الدولة داخل الاقتصاد التعاضدي تصبح الدولة المحرك الأساسي للاقتصاد من خلال الإشراف والتسيير الكامل لكل الميادين ولا يجوز للخواص التدخل في أي قطاع منها، وهنا يأتي الحديث عن تجربة التعاضد في تونس والتي لم تدم طويلا حيث امتدت بين 1962 و1969.
قامت الدولة بمصادرة كل الملكيات الفردية في البلاد التونسية في كل القطاعات وأصبحت هذه الملكيات ملكا للدولة ولم تعد ملكيات فردية. وفي البداية قامت الدولة في الميدان الفلاحي بإنشاء وحدات إنتاجية وتعاضديات فلاحية وكان غاياتها من ذلك الحد من ظاهرة النزوح الريفي.
أما في الميدان الصناعي فقد عملت الدولة على بعث أقطاب صناعية في جميع مناطق البلاد التونسية مثل مصنع الفولاذ بمدينة منزل بورقيبة ومصنع التبغ بالقيروان. لكن لم يقبل التونسيون قيام هاته التجربة الاقتصادية الجديدة.
ومن المعلوم أن سبب رفضهم لذلك هو أن التعاضد يمثل خطرًا على الملكية الفردية ونعني بذلك أن التعاضد يجعل من الدولة المسيطر الوحيد على الاقتصاد. وهنا يتم القضاء نهائيا على القطاع الخاص وكل أشكال الملكية الفردية.
كما تؤكد بعض الشهادات أن فلاحي منطقة الوسط والجنوب هاجروا إلى الجبال والصحاري رفقة أغنامهم وإبلهم خوفا من مصادرة الدولة لممتلكاتهم الفلاحية.
وهكذا يفهم مما تقدم أن التونسيون رفضوا رفضًا قاطعًا قيام تجربة التعاضد وبالأخص كبار الملاك للأراضي الفلاحية لأن هذه التجربة لا تعتبر إنصافًا لهم وهي في نظرهم غير عادلة إذ تجعل من غير الملاك يتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتع بها الملاك الصغار والكبار. غير أن بعض خبراء علم الاقتصاد يرفضون هذا التفسير.
فشل تجربة التعاضد بتونس
لم تتبع تونس وحدها هذا المنوال من الاقتصاد والذي بدا غريبًا عن المجتمعات المغاربية، بل إن الجزائر والتي تحصلت على استقلالها بصفة متأخرة سنة 1962 اتبعت اقتصاد التعاضد. لكن هذه التجارب سرعان ما باءت بالفشل ويعود هذا الفشل أساسًا إلى عجز الوحدات التعاضدية عن توفير العمل لكل المنخرطين في هاته التعاضديات.
كما تمثل السبب الأهم والذي يبدو أكثر دقة في تفسير فشل هاته التجربة وهو معارضة كبار الملاكين لهذا النمط الجديد من الاقتصاد. ولكن هاته الأسباب لا تعتبر مقنعة للمختصين في علم الاقتصاد.
انتهنت تجربة أحمد بن صالح سنة 1969 بالفشل وكادت أن تؤدي بالدولة إلى حافة الإفلاس. بعد هذا الفشل اتبعت الدولة تجارب اقتصادية ذات توجه ليبيرالي ساهم خلال مرحلتي الثمانينات والتسعينات في تحقيق انتعاشة للاقتصاد التونسي. ويعتبر الاقتصاد الليبيرالي أكثر نجاعة لأنه يراوح بين القطاعات الخاصة والقطاعات العمومية.
أدى فشل تجربة التعاضد إلى إعفاء الوزير التونسي الأسبق أحمد بن صالح من مهامه وسجنه إلى حدود فراره من السجن سنة 1973.
خاتمة
عموما يعتبر التعاضد منوالا اقتصاديًا غير ناجع في كل المجتمعات لأن بواسطته تضمحل الملكيات الفردية والمبادرات الخاصة. وتصبح الدولة المتحكم الوحيد في الاقتصاد وهو سبب يجعل الأفراد لا يقبلون به خصوصًا أصحاب الثروة والنفوذ.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست