قبل بضع سنوات, أجرى صحفي بجريدة لوموند الفرنسية حوارًا مع رهائن تعرضوا لحادث اختطاف طائرة, وكان من أغرب الأشياء التي لفتت انتباهه وقوع حالات طلاق كثيرة بين الرهائن المتزوجين الذين عانوا سويًا هذه التجربة. أثار هذا الأمر فضول الصحفي, فتحدث إلى المطلقات حتى يعرف أسباب اتخاذهن هذا القرار. وخلال الحوار, علم منهن أنه لم يخطر ببال أكثرهن فكرة الطلاق على الإطلاق قبل حادث الاختطاف, لكن أثناء هذا الحادث المروع, “تفتحت أعينهن”, ورأين أزواجهن على نحو جديد.

لقد أثبت هذا الحادث أن أزواجهن الطيبين الصالحين ليسوا سوى مخلوقات أنانية لا تهتم إلا ببطونها, وأن رجال الأعمال الشجعان كانوا مثالًا للجبن في أبشع صورة, وأن الرجال واسعي الحيلة ضاعت حيلتهم, ولم يفعلوا شيئًا سوى النواح والعويل على نهاياتهم الأليمة.

هنا سأل الصحفي نفسه: أي الوجهين أصدق؟ وأيهما القناع؟

واكتشف أنه لا ينبغي طرح السؤال بهذه الطريقة, فليس أحد الوجهين أصدق من الآخر, لأنهما كانا إمكانيتين متلازمتين لشخصية الضحايا, كل ما في الأمر أنهما ظهرا في أوقات وملابسات مختلفة, ولذا غلب الوجه “الحسن” لأن الظروف الطبيعية فضلته على الوجه الآخر, لكن الوجه الآخر ظل موجودًا, وإذا كان يصعب رؤيته عادةً.

ورغم النهاية المؤلمة لهذه القصة, فإن أجمل ما فيها هو أنه لولا التجربة التي مر بها الرهائن, لكان من المحتمل أن يظل الوجه الآخر مختفيًا للأبد, ولظلت الزوجات يستمتعن بحياتهن الزوجية دون أن يدركن أن الرياح ربما تأتي بما لا تشتهي السفن, فتكشف من خصال غير حميدة لرجال ظنن أنهن يعرفنهم, وأحببن ما عرفن عنهم.

على عكس ما يظن البعض, فالانقلابات والحروب والأزمات والكوارث قد تكون مفيدة على المدى البعيد في بعض الأحيان. فما منع العالم من القيام بحروب قد تعيد للذاكرة الخمسين مليون قتيل  أو معسكرات أوشفيتز ومحارق هتلر, ومئات الآلاف من الضحايا  في هيروشيما وناجازاكي وملايين المتضررين. فلولا عصور الظلام والحروب, والانقلابات والكوارث الإنسانية ما ظهر حكام مستقلون وطنيون, يطمحون إلى الارتقاء محاولين تعويض ما فات. فقط يتوقف الزمن والتاريخ في لحظة معينة عن الدوران حول أنفسهم, ليكتبوا تاريخًا جديدًا تحت إرادة الشعوب حين تتيقن أنها هي فقط من بيدها تحديد مصيرها.

فنحن على مشارف عام ينقضي, وعام آخر يبدأ, وذكرى هنا ومأساة هناك, وحال باق أو يسوء, ما تذكر أحد يومًا ما كان هدف ثورة 25 يناير, أو استفاد أحد من العقبات المتتالية ثم الانهيار التام. وكيف أظهر الخوف الوجه الآخر لنا وللناس, وما الأحكام  التي أطلقناها عليهم, وما الأحكام التي أطلقوها علينا.

ويبقى السؤال الأهم والأجدر دائمًا بالطرح؛ ما البديل وكيف سيقدم كمنافس للدولة العسكرية, وإن كانت فكرة الثورات غير مجدية في الوقت الحالي, ما هي الأهداف القريبة, محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه  من الحريات المتآكلة باستمرار, إخراج الآلاف معتقلي الرأي,  انتصارات صغيرة هي ما نحتاجها الآن, فالاستعداد للتجربة أهم  من خوضها, والتعلم منها أهم.

بالطبع نحلم بتغير شامل وجذري, تنحل معه كل مشاكلنا, ولكن علينا التذكر دائمًا أن في “العجلة الندامة” و”على قد لحافك مد رجليك”. وحتى نقطع طريق التاريخ لإعادة تكرار نفسه, علينا التوقف عن تكرار أخطائنا ولنبدأ من جديد.

وعلى الله قصد السبيل.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد