كان عبد الرحمن الجبرتي أول من ذكر لفظة الحرافيش (وتعني العامة)، وقد وردت في كتابه عجائب الآثار في التراجم والأخبار، ثم أطلق الفنان أحمد مظهر على مجموعة من أصدقاء شلته اسم «الحرافيش»، وأبرز أعضاء شلة الحرافيش أديب نوبل نجيب محفوظ، والأديب المحامي عادل كامل، والكاتب الساخر محمد عفيفي، والسينمائي توفيق صالح، والإذاعي إيهاب الأزهري، وبهجت عثمان، وصبري شبانة (ابن عم العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ). في بداية أربعينيات القرن العشرين، كانوا يجتمعون كل خميس في بعض مقاهي العباسية، ثم ينطلقون إلى مكتب عادل كامل، ويخرجون منه إلى مكانٍ مفتوح بعد أن يشتري محفوظ كيلو حلويات شامية وكيلو كباب. كتب محفوظ رواية تحمل اسم «ملحمة الحرافيش» تخليدًا لهذه اللقاءات الممتعة.

انضم لشلة الحرافيش أعضاءٌ أسماهم نجيب محفوظ (الأعضاء غير الدائمين) منهم الأديب الكبير ثروت أباظة، وعميد الحقد الأدبي لويس عوض (كما يطلق عليه ثروت أباظة وغيره من الأدباء)، والفنان صلاح جاهين، والدكتور مصطفى محمود، والأستاذ أحمد بهاء الدين. وفي ليلة من ليالي سهرات «الحرافيش»، قال ثروت أباظة لنجيب محفوظ: نجيب بك! إن أحدًا لم يتكلم حتى الآن في شرعية حكم الطاغية. صمت نجيب لحظات ثم قال: فكرة جيدة؛ فأضاف أباظة: ربما حاولتها. وانتهى الحديث حول تلك النقطة، ومضت ليلة الحرافيش على عادتها في السمر.
لكن الفكرة ألحّت على ثروت أباظة، وارتأى أن يرمز للشرعية بالزواج؛ فقرأ أحكام الزواج في مذاهب الفقة الأربعة، ووجد أن أبا حنيفة يقول: إن الفتاة إذا لم تعط الوكالة لمن يزوجها؛ فإن الزواج يكون باطلًا نسبيًا، والبطلان النسبي يختلف عن البطلان المطلق؛ فالبطلان النسبي يمكن أن يزول عند زوال سبب البطلان، لكن البطلان المطلق لا يصحح أبدًا. على أساس هذا المبدأ، ولأن المذهب الحنفي في مصر له باع وانتشار كبيرين، كتب ثروت أباظة رواية «شيء من الخوف» ثم عرضها على نجيب محفوظ.

في تلك الأثناء، وفي لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة، التقى أباظة بالروائي الكبير فتحي غانم (1924 – 1999)، وكان غانم حينها رئيس مجلس إدارة دار روز اليوسف وصباح الخير معًا، فاقترح عليه أباظة أن تنشر صباح الخير روايته الجديدة؛ فرحب غانم بالفكرة ترحيبًا منقطع النظير. بعد أن فرغ محفوظ من قراءة الرواية قال لأباظة: الرواية شديدة الوضوح، ولا أدري أذلك لأنك أخبرتني مضمونها أم لأني استنتجت هذا! ربنا يستر. ومن باب المجاملة قال غانم لأباظة: إذا جاءتني مقالة من طه حسين فإني أرسل بها إلى المطبعة، وكذلك إذا جاءتني رواية منك؛ فأسقط في يد أباظة واتصل بنجيب محفوظ يستشيره؛ فأشار عليه بأن يحتال بأي وسيلة إلى أن يقرأ فتحى غانم الرواية قبل النشر.

ثروت أباظة 1927 – 2002
وجد أباظة مخرجًا من هذا المأزق بقوله لفتحي غانم: إن نشر الرواية ليس هو المهم؛ فالمهم عندي رأيك فيها؛ فأرجوك أن تقرأها. وبعد أيام تقابلا في نادي القصة وأبدى غانم إعجابه بالرواية وقال: إنها مثل قطعة الخشب العربي (الأرابيسك)، المكوّن من قطع صغيرة متراصة، والتكوين في ذاته يعطي الصورة التي أرادها الفنان. وافق غانم على نشر الرواية، وقد فهم مغزاها والرمز الذي رمت إليه، ومع أنها كانت مغامرة لكنه فنان يؤمن بالمغامرة، ولا يرضخ للتهديد. وفي عام 1967 نشرت دار المعارف الرواية ضمن سلسلة اقرأ.
في إشارة مرور، تصادف وقوف ثروت أباظة والفنان صلاح ذو الفقار جنبًا إلى جنب، وكانا صديقين في مدرسة فاروق الأول الثانوية؛ فقال الفقار: أريد إنتاج روايتك المنشورة في صباح الخير، ووافق أباظة وفتحت الإشارة فافترقا! سافر أباظة إلى الإسكندرية، وفي بعض الأيام أثناء عودته، إذا به يرى حسام الدين مصطفى وعبد الحي أديب ينتظرانه في سيارة أمام بيته، وقال له مصطفى: الرواية التي تنشر في صباح الخير.. هل أخذها أحد منك للسينما؟ فرد أباظة: لا! فأردف مصطفى: طيب يا أخي! ألست أنا أولى بها وقد أخرجت لك هارب من الأيام؟ فلما نظر فيها قال لأباظة: هذه الرواية تشبه هارب من الأيام، ولا أريد أن أكرر ما قدمته في هارب من الأيام؛ فإلى اللقاء في رواية جديدة.
في اليوم التالي، جلس أباظة في مقهى بترو، وبعد قليل جاء صبري عزت كاتب السيناريو، وقال له: صلاح ذو الفقار يريد إنتاج روايتك «شيء من الخوف»، وعرضها على حسين كمال؛ ففتن بها ويريد أن يخرجها بأي طريقة. سافر أباظة للقاهرة ومضى العقد، ووقعت النكسة أثناء إنتاج الفيلم، وتطوع أحد الموتورين من ثروت أباظة وكان يعمل بمكتب وزير الثقافة، ثروت عكاشة (1921 – 2012)، بكتابة تقرير إلى عكاشة يتضمن أن الرواية هجوم صريح وعنيف على رئيس الجمهورية. شاء الله تعالى أن يكون نجيب محفوظ مستشار وزير الثقافة للشؤون الفنية في هذه الفترة؛ فكان من الطبيعي أن يرسل الوزير التقرير إلى محفوظ ويسأله رأيه. كتب محفوظ رأيه في الرواية، وأوضح للوزير أنها رواية وطنية لا يرى فيها أي تطاول.

الفنان محمود مرسي (عتريس)، والفنانة شادية (فؤادة) في فيلم شيء من الخوف
حضر الوزير العرض الخاص، ولم يتمكن من إتمام العرض لارتباطه بموعد خاص، وعند خروجه هنأ حسين كمال وقال له: بهذه الرواية نكون قد عبرنا البحر الأبيض المتوسط. وطلب أن ينتظروه لإتمام مشاهدة الرواية، ثم عاد فاستكمل الرواية وتداول الرأي مع مستشاريه، ورأى أن تُعرض على سامي شرف في رئاسة الجمهورية. لما شاهد شرف الفيلم، أعفى نفسه من الحكم على العمل، وعرضه على عبد الناصر مباشرة؛ فلما انتهى العرض قال عبد الناصر: «لماذا تعرضون عليّ هذا الفيلم؟ هل أنا عتريس هذا؟ إذا كنت أنا عتريس والشعب لم يقتلني؛ فهو شعب من الحمير». وأمر عبد الناصر أن يعرض الفيلم دون أن يُحذف منه مشهد واحد.

المدهش في الأمر أن ثروت أباظة وفق تصنيف ثورة 1952 إقطاعي؛ فوالده إبراهيم دسوقي أباظة باشا أحد كبار رجالات السياسة قبل الثورة، ومن أعيان محافظة الشرقية، وقد تقلب في الحكم وتولى حقائب خمس وزارات، بالإضافة إلى أنه من أهم أعضاء حزب الأحرار الدستوريين في عصره. وقد استقى ثروت من والده حنكة سياسية، واستثمرها في كتاباته التي واجه بها الفساد، ولك أن تتخيل عزيزي القارئ أن الحكومة وقتها حرمت ثروت أباظة من الوظائف مدة 25 عامًا، ولم يكن ذلك إلا لنقده الأحوال الاجتماعية والسياسية.
خلال تلك المدة، عاش ثروت أباظة حياة صعبة، وانعكس ذلك على علاقته بزوجته وابنة عمه «عفاف عزيز أباظة»، إلى أن بلغ سن الأربعين فهدأت المشاكل بينهما، وأسلما للقدر عنان الأمر. وعرف أباظة وقتها بكتاباته التمثيليات الإذاعية، وبسبب تلك الكتابات الممتعة تعرف إليه الأستاذ الكبير توفيق الحكيم، وامتدت الصداقة بينهما وتوطدت. وقد أفردت للحديث عن ثروت أباظة مقالات عدة سترى النور قريبًا بإذن الله، وليس ذلك لمجرد أن ثروت أباظة بلدياتي، لكن لأن قلم هذا الرجل يستحق أن تعرفه الأجيال الشابة.
لم يكن ثروت أباظة واحدًا من الضباط الأحرار كما توهم كاتب مقال «45 عامًا على رحيل عبد الناصر.. ماذا فعل بنا العسكر؟»، ربما أوردها سهوًا أو اختلط الأمر عليه؛ فإن ثروت أباظة تخرج من كلية الحقوق وباشر مهنة المحاماة لفترة قليلة، ثم توجه بكليته للأدب. كان ثروت أباظة ناقمًا على فترة حكم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وقد كتب بعد وفاة ناصر مقالًا ناريًا عنوانه «في أي شيءٍ صدق؟!»، وكانت ردود الأفعال حول هذا المقال صاخبة، وسيأتي الحديث عن ذلك في ثنايا عرضنا لحياة ثروت أباظة لاحقًا إن شاء ربنا وقدر.
أيضًا فإن ثروت أباظة -كما أوردنا في السطور السابقة- قد كتب رواية «شيء من الخوف» بعد أن استقر في نفسه الكتابة عن شرعية حكم الطاغية، وليس كما أورد صاحب مقال «قراءة في فيلم شيء من الخوف» الذي كتب: (فيلم شيء من الخوف إنتاج عام 1969م، وكان عبارة عن قصة قصيرة لـ«ثروت أباظة» تحدث الكاتب فيها بقصد أو بدون قصد عن حقبة سياسية، قام بمواكبتها، وأطلق العنان لقلمه السيال، …). وقد أشرنا إلى الحوار بين ثروت أباظة ونجيب محفوظ حول شرعية الحاكم، وكان مدخلًا لرواية أباظة بعد ذلك، وهو ما ينفي فكرة أن أباظة كتب الرواية لا يلوي على شيء من الإسقاطات السياسية فيها.
نقطة أخيرة في هذا السياق، أرجو من الزملاء الأعزاء أن يتثبتوا من معلوماتهم، وأن يحرصوا قدر المستطاع على تقديم جانب جديد في كتاباتهم، وألا تغريهم السهولة بالهرولة إلى «موقع ويكيبيديا»؛ فهذه الموسوعة ليست مصدرًا دقيقًا ولا موثوقًا للمعلومات، وإن القارئ يأخذ عنا وربما لا يجد من الوقت متسعًا للبحث والتنقيب عن صحة المعلومة؛ فلنحرص نحن معشر الكتاب على ذلك، وهذه أمانة في عنق كل من يحمل قلمًا أو ينشر فكرًا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
#سينما, إعلام., الأدب, الرواية, السياسية, القصة, المجتمع, تعليم, ثروت أباظة, ثورة 1952, جمال عبد الناصر, سلطة, فن, كتب, نجيب محفوظ