كانت مسابقة طلابية، وجاءت فقرة الشِّعر، فخرج أحد الطلاب وألقى جزءًا من قصيدة حماسية، بلغة تمتلئ بلاغة وحماسة، فقلت في نفسي: هذا هو الفائز، إلا أنني فوجئت بطالب آخر خرج ووقف على المنصة، ثم ارتجل شعرًا عنوانه: “أمي”، قال فيه كلامًا غثًّا، لو سمعته أمه لصفعته، ومع ذلك، ضجت القاعة بالتصفيق، وأُعلن فائزا في إلقاء الشِّعر.
أنا ضد تسطيح الأمور وتبسيطها، ولكن هذا الموقف صدمني صدمة معرفية، فالحقيقة أن الذي رجح كفة “محب أمه” ليس اللغة، ولا الشِّعر، ولا الإلقاء، ولا الذكاء في اختيار موضوع وكلمات، لكنه شيء واحد، هو عاطفية العقل الجمعي العربي، الذي مثلت القاعة جزءًا مصغرًا منه، فأعلنته فائزًا بكل جدارة؛ لمجرد قدسية الأم ورفعة قدرها في المجتمع!
والحقيقة أن اللغة العربية بطبيعتها لغة فيها قدر كبير من الحب والدفء والغزل، روافده مترادفات كثر، وسجع، ونعوت، وأحوال، وصيغ مبالغة، وجموع تكثير، هذا عدا التجانس الصوتي، والجمال البديعي، وعلامات الترقيم الرائعة، ولذلك فأخطر الأسلحة اليوم رجل يملك ناصية اللغة العربية، مكتوبة أو ملقاة، مع تفاوت نسبة التأثير بين الكتابة والإلقاء.
ولهذه الطبيعة ظن بعض المفكرين أن العرب ظاهرة صوتية، فكل مفاخرهم ومآثرهم تتعلق بالكلام، الذي يخاطب العاطفة والوجدان، من شِعر وخطب وأمثال، لكنها في الحقيقة تمثل الداء والدواء في الوقت نفسه، فالأفيون في غرفة العمليات شفاء، وخارجها لعنة وبلاء.
ولطبيعتنا الاجتماعية – نحن العرب – نجد تأثيرا متزايدا للمدونات والمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي في عالمنا العربي، أبطالها من الشباب، وبعضهم متحمس لفكرة أو لحزب ومجموعة، والبعض الآخر أخو نفسه، همته العليا أن يراه الجميع ويصفق له.
وقلة قليلة منهم تمتلك العقل الواعي الذي يوجه ما يكتبون، والضمير الحي الذي يحميهم من الانزلاق إلى التأثير في عواطف الناس، وتسطيح عقولهم أو تعطيلها، ووسائل ذلك معروفة، منها لي أعناق الكلمات والتلاعب بها، والحشد العاطفي بنصوص دينية أو أدبية في غير محلها وغير ما يُراد لها.
وربما كان الشباب أكثر تأثيرا بعضهم في بعض، قد يكون ذلك لعدوى التقليد، وقرب السن، وتأجج المشاعر، وخفة التجربة التي لا ترهق ذهن القارئ الشاب، والخلو التام من لغات الكهول المجرِّبين ومصطلحاتهم الثقيلة.
لكن الكتابة في النهاية عمل ليس بالبسيط، ومن خطورته على الكاتب أن تتحول الكتابة إلى كلام في المطلق وبث في الفضاء، فينتهي الكاتب إلى أن يصبح معوقًا عن الحياة الطبيعية للشباب، مكتفيًا بالنجاح “الإنترنتي” وكم “اللايكات” والتعليقات الذي يحصل عليه كلما كتب.
وربما كان الكاتب الشاب محظوظا في الانتشار، فتنمو لديه “عقدة الاستعلاء” النفسية المدمِّرة، التي توصف بأنها “أساس المرض العقلي”، فيخسر من حيث أراد المكسب!
أما خطورته على القراء فتكمن في تغذية العقل بمعلومات مغلوطة، أو التوجيه نحو فكرة أو عمل، وبرمجة العقل نحو التبرير لمجموعة أو حزب، والشيطنة لمجموعة أخرى، أو تحييد العقل عن قضية ما لتصبح العاطفة هي السائدة والموجِّهة، فما كل كاتب يحركه ضمير، ولا كل قارئ له عقل راجح.
وعلى المستوى الشخصي أرى – ولا أعمِّم – أن الكتابة من أعمال الكهول، الذين هدأت مسيرتهم البدنية وعظُم رصيدهم من التجارب والحكمة، فيبثون ما لديهم، أما مَن كانت صلته بمجال ما هي بضع سنوات فحسب، فأي رصيد لديه؟ ما خُلق الشباب ليتكلم، لكن ليعمل ويجد.
لا أشك أن الكلمة أمانة ومسؤولية، مَن حملها فقد حمل ثقيلًا، سيحاسَب عليه إن في الدنيا أو في الأخرى، فليحمل مَن شاء ما شاء.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست