يستحيل على الإنسان مع الخوف أن يصل إلى السعادة، والسعادة هنا تختلف تمامًا إلى حد التناقض مع اللذة حيث إن اللذة سريعة وفائتة، وهي وجه من وجوه الألم، في حين أن السعادة دائمة وباقية، وهي شعور قلبي لا يمكن ربطه بسبب كاللذة والألم، ولهذا فلن ينعم الإنسان بالسعادة قبل أن يتخلص من الخوف، ولن يتخلص من الخوف قبل أن يغير برمجة عقله التي خضع لها منذ صغره، وهي البرمجة التي أفهمته أن الحياة ما هي إلا تحقيق النجاح والهرب من الفشل.
كما أن للخوف نتيجة على الإنسان إذ يصيبه بداء التعصب؛ لأن الخوف يفرض عليه أن ينتمي لما يعتقد أنه ما يحمل الحقيقة العليا والنهائية، وبالتالي ينظر من مرتبة أعلى إلى كل ما يخالف ما ينتمي إليه، وبالتالي يشعر بدونية هذا المخالف وأحقيته في سحقه، لأنه يخالف الحقيقة النهائية التي ينتمي إليها.
وبذلك نستطيع أن نضع شروطًا للتخلص من الخوف المتحكم في حياة الإنسان، وتتلخص هذه الشروط في:
1- إعادة برمجة العقل حتى يتخلص من نموذج النجاح والفشل الذي يصيبه بالخوف، ليتحول إلى نموذج المحبة الخالصة المتخلصة من الأغراض، فهي محبة غير مشروطة يتوجه بها الإنسان إلى كل ما حوله من مخلوقات حية وغير حية، حتى يستدعيها عند التعامل مع هذه المخلوقات، فتكون هي القيمة التي يحدد وفقها معتقداته وأفكاره وقراراته وأفعاله، التي ستؤثر بالتالي على تعامله مع المخلوقات من حوله.
2- وبهذا لن يعمل لتحقيق النجاح والهروب من الفشل، وإنما ليقدم من خلال عمله حبًا تجاه المخلوقات؛ وبالتالي لن يحاول في عمله الوشاية بزملائه أو إثبات تفوقه عليهم، أو محاولة تكسير عظام المنافسين، ولن يتطرق إلى استغلال الآخرين لتحقيق نجاحه، وفي الزواج لن تسيطر عليه فكرة النجاح وفق النموذج المجتمعي المعتاد، فلن يسعى للزواج كوسيلة لإثبات النجاح، ولن يتزوج وفق مقاييس المجتمع حيث يرغب في الظهور أمام مجتمعه أنه اختار الشخص المناسب جمالاً وعائلة وعقلاً، وإنما سيتزوج ببساطة من يحب، لا ذلك الحب الذي يُكمل دائرة النجاح، ولكنه الحب الإنساني الذي لا يفرض على الزوجين سوى التكامل والتفاهم بغض النظر عن الأمور الأخرى.
3- التخلص من كل القوى المسيطرة على الإنسان والتي تدفعه للظهور على غير حقيقته، كالقوى الروحية الدينية التي تسعى لقولبته وفق مرادها، وقوى الانتماء لمجموعة ما، والتي تسعى للسيطرة عليه لصالح المجموعة وكبارها، وقوى الاعتبارات المجتمعية التي يسعى لإرضائها حتى يعتبروه ناجحًا وفق مقاييسها، وبالتالي لا تكون هناك قوة مسيطرة عليه سوى قوى الحب، فلا يصيب مخلوقًا بأذى لأن الحب الذي يحمله بداخله تجاه المخلوقات هو أسمى عنده من الانتماء لمجموعة ما، وبالتالي لن يحقق نجاحه على حساب غيره، فلن يشعل الحروب لمصلحة جماعته، ولن يصطاد الثعالب ليزين بفرائها أكتاف نساء قبيلته، ولن يقطع الأشجار قطعًا جائرًا لمجرد أن يحصل على لذته بمنتجاتها، وسيتصالح بالتالي مع كل المخلوقات حوله، مما سينعكس على تصالحه مع نفسه، وتحقيقه سلامه الداخلي.
وبالتالي إذا توجه إلى الله فإنه سيتوجه له بالحب لا طمعًا في نجاح أخروي، أو خوفًا من فشل دنيوي أو أخروي، ولن يجعل هذا التوجه سببًا في إلحاق الأذى بغيره لأن الله هو الحب، ولا يمكن أن يؤدي طريقه إلى إلحاق الأذى ببقية مخلوقاته التي يحبها، وكذلك إذا انتمى إلى أية مجموعة أو طائفة فإن علاقته بها ستكون علاقة حب، مع محبة اللامنتمين إلى هذه المجموعة، وعدم تفضيل مصلحة المجموعة إذا ما كانت مبنية على أذى يلحق الآخرين.
4- التخلص من الطموح، فرغم أن كلمة الطموح لها مدلول إيجابي إلا أنها في الحقيقة تفقد هذا المدلول الإيجابي عند تطبيقها على أرض الواقع، فتحل معاني الصراع والمنافسة وسحق المنافسين واستغلال احتياجات الآخرين في سبيل تحقيق الطموح، فإن حلّ الحب في النفس محل الطموح فسيشعر الإنسان بالسعادة في محبة الآخرين لا التصارع معهم، ويصبح مقياس نجاحه هو مدى توجهه بالحب تجاه الآخرين لا مدى ما يحققه من نجاحات ترفع من مكانته، وهذا يضمن التخلص من الخوف لأنه لن يبتغي من معتقداته وانتماءاته وأفعاله تحقيق النجاح والهرب من الفشل، وبالتالي لن يخاف من الإخفاق ولكن سيبتغي تقديم المحبة، وبالتالي الرضا والسعادة في كل الأحوال، سواء حقق بعمله النجاح أو أصابه الإخفاق.
إن مأساة الإنسان في برمجته وفق نموذج النجاح والفشل كان لها تأثيرها السلبي على كل المخلوقات، فهذا الصراع المحموم بين البشر انعكس على الحيوانات التي تعاني الانقراض، والنباتات التي اختفت، والكوكب الذي يئن تحت وطأة التلوث، وذلك الانهيار الذي أصاب كل شيء منذ وطئت قدم الإنسان الحياة، والذي أخل بالتوازن الذي كانت تتصف به الكرة الأرضية.
وبالطبع فإن هذا التأثير شمل البشر أيضًا، فانقسموا إلى شعوب وقبائل، وكل مجموعة لا تفكر إلا في مصالحها الخاصة ولو على حساب بقية المجموعات الأخرى، كما انقسموا إلى ديانات كثيرة معظمها يدعو إلى السلام والتسامح والتحلي بمكارم الأخلاق، ورغم ذلك كانت هذه الأديان سببًا رئيسيًا في نشر الكراهية والحروب والدمار، وذلك عندما اعتبرت كل مجموعة أن دينها هو الذي يحمل الحقيقة المطلقة النهائية اليقينية وحده.
وليست المشكلة في ذلك ولكن تبدأ المشكلة عندما يعتبر صاحب هذا الدين أنه ما دام يملك الحقيقة المطلقة، فإن هذا يبرر له أولاً السيطرة على المخالفين لدينه، وغير المعترفين بحقيقته المطلقة ولو كانت هذه السيطرة ناتجة عن الحروب، وثانيًا التدخل في تفاصيل حياة من يتبعون هذا الدين، حيث يعتبرون أنفسهم وكلاء هذا الدين، الذين يجب أن يتأكدوا من تطبيقه تطبيقًا صارمًا، ولو في أدق تفاصيل الآخرين، فكان هذا مبررهم للاضطهاد والظلم، فانحرفوا بالدين عن وظيفته في نشر السلام والتسامح والمحبة، فأصبح سببًا لنشر الكراهية والحروب والظلم، ولعل هذا لا يخص الأديان فقط، ولكن يخص كل مجموعة آمنت بمعتقدات معينة، ولو كانت أفكارًا أرضية، فوجدنا كيف اضطهد الشيوعيون غيرهم، وكيف وجد الرأسماليون أن لهم الحق في اضطهاد مخالفيهم واستغلال الضعفاء.
إنه ليس خطأ الأديان والأفكار والمعتقدات، ولكنها طبيعة برمجة عقلية الإنسان على قاعدة ضرورة تحقيق النجاح ودفع الفشل، التي خلقت الصراع والتنافس حتى في أكثر المعتقدات نقاءً، وحتى إن كانت تحمل أفكارًا تنادي بالسلام والتسامح والمحبة، والأمثلة على ذلك تطول كل الأديان والأفكار والمعتقدات، فحتى المسيحية التي يتفاخر أتباعها بأنها قائمة على الحب والتسامح لم يتورع أتباعها عن أن يضطهدوا مسلمي الأندلس (المورسكيين)، أو أن يحرقوا المخالف معهم كما حدث بين الكاثوليك واللوثريين في حروبهم الطويلة، وكل هذا رغبة في الدفاع عن كلمة الرب التي تبتغي نشر التسامح والسلام والمحبة.
يمكنك متابعة الجزء الأول لهذا المقال
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست