وُلدَ ونشأ معظمنا محاطًا بأمثال من مثل: (إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب)، لكن ما لم نسمع به بيننا:

هو أن بعض الصراخ قد يكون حياة، وبعض الصمم (فقدان السمع)- لكن إراديًّا هنا لبعض الكلام – قد يكون فضيلة حقًّا!

صرخة الجنين حين يجتاز العوائق ليخرج من رحم أمه لرحم الحياة، هي إيذان بولادته حيًّا، ولولا تلك الصرخة لشككنا أنه حي، وكذلك صرخات الحرية التي انطلقت متحدية عقودًا من الخوف والصمت، مطالبة بحق شعوب الربيع العربي في الحياة، كانت إيذانًا بأن هذه الشعوب كانت وستبقى حية، وأن ليس بالإمكان إعادتها إلى عصر الخوف مرة أخرى.

فالصراخ هنا حياة، ودليل على أن شعوبنا ما زالت قادرة على أن تقول: لا!

وفي صرخة لا تولد الحرية!

أما فضيلة الصمم، فهي فضيلة تحمي الحياة وتدعم اختيار طريق الحرية.

الصمت فضيلة اكتشفها هذا الشاب اللاجئ وحده! كان شابًا يتوقد ذكاءً، اضطر للجوء للسويد بسبب الملاحقة الأمنية بسبب مواقفه المعارضة للنظام.

سألته مدرسة اللغة: عن المهنة التي يرغب بامتهانها في السويد؟ أخبرها أنه يرغب في أن يكون محاميًا! استغربت معلمته وضحكت، وقالت له: أنت ستكون محاميًا! لا أظن أن بإمكانك فعل ذلك!

أنت بالكاد الآن تتكلم اللغة السويدية، وما زلت في بداية البداية، هذا أمر صعب جدًّا، لا أظنك تقدر عليه.

قرر الشاب أن يتجاهل تلك الكلمات السلبية التي سمعها، والتي شككت بقدرته! بل زادت كلمات المعلمة من رغبته في النجاح والتحدي ومن ثقته بذاته وقدراته، فوصل الليل بالنهار وهو يدرس ويتعلم.

بعد عام تمامًا من تلك الحادثة التي ضحكت فيها المعلمة من أحلامه وقرر أن يصم آذانه عن كلماتها السلبية ومضى! بعد عام تمامًا كانت تلك المعلمة تبكي تأثرًا وخجلًا مما قالته! لقد أصيبت بدهشة كبيرة لأن هذا الشاب الذي استهانت بقدراته، قد تجاوز بنجاح كبير المستوى الأعلى للغة السويدية، في وقت قياسي هو نصف الوقت المخطط لتعلم اللغة، أي في عام واحد بدلًا من عامين! بسبب هذا المستوى العالي جدًّا والوقت القياسي فقد نال جائزة خاصة تقدمها الدولة السويدية لأصحاب الإنجازات الاستثنائية تقدر بحوالي اثني عشر ألف كرونة سويدي!

وهو في طريقه لأن يصبح محاميًا أيضا!

قالت له المعلمة أخيرًا: نعم، أنت يمكنك أن تكون ما تريد، لم أجد إنسانًا أكثر عزمًا وإصرارًا منك!

قصة هذا الشاب تذكرنا بقصة الضفدعة التي نجت من قدر الماء المغلي. كانت بضع ضفادع موجودة في وعاء على النار، وبدأت الحرارة تزداد بشكل تصاعدي، والضفادع تتأقلم، حتى غدا التأقلم يعني الموت سلقًا بارتفاع درجات الحرارة! حاولت الضفادع أن تقفز من القدر، ولكنها لم تنجح! في الأعلى على حافة القدر كانت هناك ضفادع أخرى، تقول للضفادع في الأسفل:

لن تستطعن القفز، حافة الوعاء عالية جدًّا عليكن! فاستسلمت الضفادع لقدرها، لم تعد تحاول حتى ماتت!

إلا ضفدعة واحدة!

ظلت تحاول، وتحاول، وتحاول، ولم تلتفت أبدًا لمحاولات إحباطها وثنيها عن المحاولة، حتى قفزت بنجاح ونجت بحياتها.

الضفدعة الناجية كانت صماء!

إذن لا بد لنا أن نعترف أن الصمم قد يكون فضيلة، وخاصة عندما يكون اختياريًّا في مواجهة الأصوات السلبية من الخارج، ربما هذه فضيلة تحتاج أن تتحلى بها شعوب الربيع العربي الآن، بعد أن تحلت كثيرًا بالصبر، حتى أصيبت بالسكر من كثرة ما تحلت!

فضيلة الصمم والصبر هي من فضائل حرف الصاد، ونحن شعوب الضاد! يبدو أنها من الفضائل المرافقة لشعوب أغلبها ينطق بالضاد، فالضاد والصاد، جيران!

يريدون منا أن نصدق أن بلادنا ستظل بيد الطغاة، ستظل مقسمة، سيظل شبابنا وأسرنا مهجرة مبعثرة، ستظل مناطقنا محاصرة جائعة تحت رحمة المحتلين.

سيظل شبابنا في المعتقلات أو خلف القضبان أو خلف الحدود، أو سيهجرون القضية ويعيشون حياة هامشية عرَضية.

يريدون منا أن نصدق أن ثوراتنا ماتت وانتهت، وأن علينا نحن أيضًا أن ندخل في مرحلة موت سريري، نتقبل معه كون بلادنا خاضعة لحكام عسكريين مستبدين تابعين يعملون أداة للمحتل الأجنبي في أوطاننا!

يقولون عليكم أن تقبلوا ببقاء الأسد، وكأن شيئًا أبدًا لم يكن منذ خمس سنوات حتى اليوم!

وكأن نصف مليون لم يستشهدوا، وكأن مدنًا كاملة لم تخل من سكانها، وكأن عشرة ملايين لم يتحولوا إلى لاجئين، وكأن مليون إنسان لم يصبحوا مصابين! وكأن مئات الآلاف ليسوا محاصرين محرومين من أبسط حقوق الإنسان!

هم لم يسمعوا كل هذا!
هم لم يعبؤوا بكل هذا!
هم لم يعن لهم كل صراخنا وعذاباتنا وهتافاتنا بالحرية والكرامة شيئًا!
كل ما سمعناه منهم كان أكاذيب، تلو أكاذيب، تلو أكاذيب!

من حق الشعوب أن تقرر مصيرها!
على الأسد أن يرحل!
لن نقبل ببقاء الأسد!

ثم تأتي الإملاءات والأوامر والشروط، على الشعب الجائع المحاصر المقهور، ليقبل ببقاء الجلاد ويرضخ وينكسر أكثر بعد دمار البلاد والعباد.

لذلك: فإن الاستمرار طريق الحرية والتحرير، دون التفات إلى ما يقولون هو حلنا الوحيد!

بعض الصمم يا شعوب الربيع العربي فضيلة!

وبعض الصراخ والإصرار والعناد حياة!

اجمعوا ما تبقى من قوتكم وأموالكم وطاقاتكم وعنادكم، لتصنعوا استقلالية قراركم وقوموا إلى نضالكم يرحمكم الله.

 

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد