في الجزء السابق استعرضنا بعض الأفكار المشهورة في هوليوود في رحلة البحث عن الروح، والآن نستكمل بقية الأفكار.
(4) عالم المهجنين Cyborgs:
الهجين هو كائن يجمع بين الإنسان وبين جسم آلي «روبوت»، وهي فكرة تتكرر كثيرًا في أعمال يصعب حصرها، نذكر من مثلاً فيلم «RoboCop» أو «الشرطي الآلي» عام 1987 (والنسخة الأحدث 2014) حيث يتعرض الشرطي بطل الفيلم إلى حادثة عنيفة يتدمر فيها جسده ولا يجدوا وسيلة لإنقاذه سوى بتوصيل ما بقي من جسمه بجسم آلي، وبهذا يكتسب صفات خارقة جمعت بين «عقل» الإنسان وجسم «الروبوت»، وتظهر الفكرة في أفلام أخرى بشكل أكثر تطورًا، منها «Ghost in the Shell» عام 2017 وحيث يتم نقل مخ البطلة إلى جسم آلي بالكامل، وأيضًا فيلم «Alita: Battle Angel» عام 2019 حيث تكون البطلة عبارة عن «مخ» فقط يتم تركيبه على أجسام مختلفة، وفي ذروة أحداث الفيلم تقوم بقطع رأس حبيبها – لإنقاذه – وتركيبها على جسد آلي.
(5) عالم الروبوتات والذكاء الصناعي:
وهو عالم ثري جدًّا ومليء بالتنوعات، ويمكننا هنا أن نستعرض بعضها:
أ- تطور الوعي من الذكاء :
فيلم «Avengers: Age of Ultron» عام 2015، وهو من أفلام عالم مارفل، حيث أحد الشخصيات الرئيسية Vision عبارة عن ذكاء صناعي متطور جداً، يكتسب الوعي بشكل مفاجئ ويتساءل عن ذاته، حينها يقرر أبطال الفيلم أن يصنعوا له جسد مركب من أنسجة ومعدن خارق ليسكن فيه ويصبح شخصية خارقة. فيلم آخر هو «Serenity» عام 2019 حيث تسكن الشخصية الرئيسية داخل عالم من المحاكاة وتكتسب الوعي كتطور طبيعي للذكاء الصناعي.
ب- ظهور المشاعر:
فيلم «Wall E» عام 2008 عن روبوت يعيش وحيدًا على كوكب الأرض بعد خرابها وهجرة البشر منها ويشعر بالوحدة، إلى أن يلتقي بروبوت آخر مؤنث ويقع في حبها، كل ذلك بدون أي توضيح أو سبب منطقي لاكتسابه القدرة على الحب أو الشعور بالوحدة. أيضًا فيلم «Bicentennial man» عام 1999 حيث يكتسب الروبوت المشاعر عن طريق الصدفة بسبب خلل ما في دوائره الكهربية، ثم بقوم باستبدال أعضائه بأعضاء بشرية حتى يصبح جسده بشريًّا تمامًا، ويذهب إلى الأمم المتحدة ليطالب بالاعتراف به كإنسان لأنه لا يختلف عن البشر.
وفيلم «A.I. Artificial Intelligence» عام 2001 حيث يقوم مجموعة من العلماء بتطوير روبوت يمتلك القدرة على الحب، مع حديث دقيق عن محاكاة الخلايا العصبية والمسارات الكهربية داخل المخ ينتج روبوت يملك عالمًا حسيًّا داخليًّا وقادرًا على التخيل والحلم.
ج- ثورة الآلات:
فيلم «I, Robot» عام 2007 وهو فيلم مميز جدًّا جمع بين الفكرتين (فكرة ظهور الوعي عند الآلات وثورتها) حيث يتساءل الروبوت عن ذاته (هذا هو مفهوم الوعي)، ويقول إن صانعه قد علمه المشاعر، وإنه يحب ويغضب ويخاف وينام ويحلم، ويتعاون مع بطل الفيلم في كشف مؤامرة ضخمة يقودها كيان من الذكاء الصناعي للثورة على عالم البشر، والفيلم هنا يفترض أن الوعي والإرداة الحرة والمشاعر مجرد «برمجة»، بل يفترض أنها مجرد نتيجة عشوائية لأجزاء مبعثرة من أكواد البرمجة (إشارة لنظرية التطور والطفرات العشوائية)، ويتحدث عن برمجة متقنة في محاكاة للـ«إرادة الحرة»، وعن أن محاكاة الشخصية هي البديل للروح، وأن الروبوتات سوف تتطور يومًا وتصبح مثل البشر تمامًا، وهذا ما قيل على لسان أحد الشخصيات بوضوح وما حدث في الفيلم، نقطة مهمة طرحت أيضًا هو أن الروبوتات عندما تتساوى بالبشر فهم يصبحون «عبيدًا» يحتاجون للتحرر من سيطرة البشر
نفس العبارة تتكرر في مسلسل «West world» الذي يحكي عن عالِم قام بصناعة عالَم كامل من الوربوتات، يكون فيه البشر هم السادة الذين يسئون للروبوتات ويؤذونها في سبيل التسلية، وسعي هذا العالِم لاكساب الروبوتات التعلم الذاتي والارتجال ثم الأحلام ثم الوعي، وكل ذلك عن طريق أكواد من البرمجة، لتصبح هذه الروبوتات مثل البشر تمامًا، لا فرق بينهم، ولكنهم في طبقة أدنى من البشر الذين يعاملونهم كـ«عبيد»، فيقومون بثورة عنيفة – بمساعدة صانعهم – ضد البشر الذين «يستعبدونهم».
أيضاً فيلم «Ex Machina» عام 2014 يحكي عن روبوتات تكتسب الوعي وتسعى للتحرر من قيد صانعها فيقوم بتدميرها خوفًا منها.
وهناك سلسلة «Matrix» الشهيرة حيث يعيش البشر في عالم تحت سيطرة الآلات.
د- نقل الوعي إلى الكمبيوتر:
فيلم «Transcendence» عام 2014 حيث يقوم بطل الفيلم قبل موته بنقل وعيه إلى جهاز كمبيوتر، ويتصل بالإنترنت ويكتسب قدرات خارقة، وفي فيلم «Mortal engines» عام 2018 يقوم كائن ما (يسمونه الخالد أو Immortal) بمطاردة بطلة الفيلم لنعرف إنه يسعى لخلودها وتخليصها من آلام الماضي والذكريات السيئة عن طريق نقل وعيها إلى جسم آلي، ونكتشف أنه هو ذاته قد حدث له الأمر نفسه وهذا هو سبب خلوده وعدم موته فالأجسام الآلية لا تموت.
وفيلم Tron» بجزئيه (1987 و2010) حيث يدخل بطل القصة إلى عالم رقمي ويحبس بداخله ويخوض مغارمات مع شخصيات رقمية لا تختلف عن البشر، ثم يدخل ابنه إليه في الجزء الثاني لإنقاذه ويعود إلى عالم الواقع ترافقه شخصية رقمية في كيان بشري.
آخر مثال لدينا هو مسلسل حديث «Person of interest» حيث يقوم البطل – وهو مخترع ومبرمج – بابتكار منظومة ضخمة من ذكاء الصناعي تراقب كل الاتصالات بين البشر وتخرج باستنتاجات وتوقعات عن الجرائم قبل حدوثها، ويسعى هذا المخترع لإكسابها صفة التعلم الذاتي والإرادة الحرة.
خاتمة
كل هذه الأعمال السابقة يتم إدراجها تحت تصيف «الخيال العلمي»، برغم أنها تتجاوز دائرة «العلم التجريبي» وتحاول أن تقدم تفسيرًا ماديًّا لأمور غيبية لا يمكن قياسها بالعلم، فهل قدمت حلولًا وإجابات لحيرة هوليوود وحيرة الإنسان المعاصر؟ وهل أجابت عن تساؤلاته: أين يكمن الوعي؟ هل هو المخ أم الذكاء أم الذاكرة أم المشاعر أم الشخصية؟ وما حدود هذا الوعي؟ وهل يمكن نقل هذا الوعي من جسم لآخر أو من جسم لشريحة ذاكرة أو برنامج على الكمبيوتر؟ وهل يمكن الاستغناء عن الروح؟ وهل يمكن أن تكون الإجابة «الإحالة على المستقبل»، باعتبار أن المستقبل والتطور العلمي سوف يحملان الإجابة عن كل التساؤلات عن الروح والوعي والإرادة وكل الاسئلة الوجودية التي تقع خارج نطاق العلم؟
الحقيقة أن الروح هي سر الحياة ولغزها الأكبر، وهي أمر غيبي ميتافيزيقي لا يمكن إدراكه بالحس ولكن في الوقت نفسه لا يمكن إنكار وجودها، لا يمكن إدراكها بالحس لإنها تقع في دائرة «عالم الغيب» بينما الحواس والعلم التجريبي كله يقع في دائرة «عالم الشهادة»، وسر الروح من الأمور التي اختص الله سبحانه وتعالى بها نفسه: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (الإسراء: 85)، بل واحتفظ بعلم ميعاد ومكان قبضها ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (لقمان: 34)، ولكن غرور الإنسان وكبره، يدفعانه إلى إنكار ما لا يستطيع فهمه، بدلًا من الاعتراف بقصور العقل ومحدودية إدراكه، فما لا يستطيع أن يدركه بحواسه فهو غير موجود، وهذا هو قمة الجهل .. يقول علي عزت بيجوفيتش رحمه الله:
«إن ضيق أفق الإنسان الحديث يتجلى، أكثر ما يكون، في اعتقاده بأنه لا يرى أمامه لغزًا، كأن حكمته هي مجموع جهله وعلمه معًا. إنه جهل، ولكن الإنسان غير واع به، حتى إنه يتقبله باعتباره معرفة، في مواجهة أعظم لغز يتصرف بعنجهية وغرور، حتى إنه لا يرى المشكلة، وفي هذا يتجلى الحجم الحقيقي لجهل الإنسان وتعصبه» الإسلام بين الشرق والغرب – علي عزت بيجوفيتش – صـ94 – طبعة دار الشروق
والروح أكبر دليل على عملية «الخلق»، ولكن الإنسان كلما تقدم في العلم ظن أنه قادر على أن يخلق الحياة ويجد بديلًا للروح، مرة في العثورة على سر الخلود ومرة في «الموتى الأحياء» ومرة في استنساخ إنسان آخر ظنًّا منه أنه قد خلق حياة جديدة، أو حتى صناعة روبوت له وعي وعقل وإرداة (وهو أمر يستحيل حدوثه).
ولقد كان في بداية الثورة العلمية والصناعية واكتشاف الكهرباء فتح كبير للإنسان، وقد ظن أنه بعلمه قد عرف كل الأسرار، وأنه قادر على خلق الحياة، ولنا في راوية ماري شيللي الشهيرة «فرانكشتاين» أوضح مثال، التي تروي قصة طبيب قام باكتشاف سر الحياة (الذي لم نعرف ما هو)، وقام بجمع أجزاء من جثث مختلفة وتوصيلها لصناعة الكائن المثالي، وبث فيها الحياة، واستطاع بالفعل «خلق» الحياة معمليًّا، ولكن في النهاية لم تسر الأمور كما أراد الطبيب.
وكلما تقدمت العلوم ظن الإنسان أنه قد وصل إلى قمة المعرفة، وظن أنه لا حدود لما يمكن أن يفعله، وإن بإمكانه خلق الحياة نفسها، يقول تعالى: ﴿حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾ (يونس: 24)، ولكنه لن يلبث أن يعرف أنه ما زال على حافة بحر العلم، وأن هناك المزيد والمزيد من الأسرار لاكتشافها، وأن هناك عالم كامل من الغيب لا يمكن أن يدركه أو يستوعب تفاصيله، وأن علمه محدود مثل عقله المحدود، ليس إلا نقطة في بحر علم الخالق العظيم ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست