التصنيف هو فن تحديد الأمور ووضعها في أماكنها الصحيحة، والتصنيفات هي فقيدة عصرنا الحالي في العمل العام أو في الحياة اليومية، حينما نضع طاولة الحوار فيما بيننا لا نجد مثلًا مرجعية لأي طرف من الاثنين غير أنه فلان ويعمل في وظيفة كذا، على غير ذلك لا نجد ما نرجعه إليه مثل إن كان ماديًا أم لا، عدمي أم وجودي، هل يؤمن بالأخلاق كما نيتشه أم يميل إلى أفكار أخرى، هل هو مُسلم سُني أم شيعي، كأن تلك الأمور لا دخل لها على الإطلاق في تشكيل رأيه.

ما نسميه «ميهمنيش اسمك ميهمنيش عنوانك» هو إنكار لدور المجتمع في بناء أفراده، وإنكار أن الفئة والخانة لديها القدرة على تكوين مجتمعات فرعية، هذا ما يجعل النقاش هزيلًا ولا طائل منه طيلة الوقت، وسرعان ما يتحول إلى مضيعة لوقت أطرافه مساعدًا على فنائهم.

ثاني الأشياء الفقيدة إلى ما يؤول هذا الحوار، هل يؤول الحوار للتوصل أي الطرفين هو أصحهم، أم يؤول إلى أنه ميدان عام للتعبير بلا جدوى، لأن الفارق بينهم عظيم، حيثُ أن الفارق بين الإنسان والذبابة دائمًا هو أن ذاكرته لا تُمحى كل خمس ثوان، ولذلك هو لا يصح أن يملأ ذاكرته بنقاشات لا طائل منها.

بين الفقيد الأول والثاني هناك ثلاثة أنماط حيث ظهور واختفاء الطرفين يكون أحد هؤلاء الثلاثة، نمط النقاش المتخصص، ونمط النقاش من بعد الخصخصة، ونمط النقاش حتى السخسخة، وها هنا سأناقش تلك الأنماط.

النقاش المتخصص هو النقاش الذي يعلم طرفاه مرجعية الآخر، ويعلم إلى ماذا قد يؤول هذا الحوار، وحقيقةً هو الحوار القائم في المعارك الصحفية التي اختفت منذ عصور تقريبًا ، ولم يبق منها سوى «الشرشحة» في الجرائد والمجلات، وآخر ما قد نراه في مسألة النقاش المتخصص هو تلك التي يصنعها الأكاديميون في دراستهم العليا من باب أن تلك وظيفتهم وليست عاداتهم وأفكارهم، ولذلك لا عجب أن تجد الملف الدبلوماسي بيننا وبين إسرائيل أطروحة بائع فول يتحدث بثقة وزير الخارجية، بينما تصريح وزير الداخلية لا يرقى لمستوى تصريحات باعة الفول على سياراتهم بجوار مبنى الوزارة الواقع أمام كورنيش النيل.

وأما النقاش من بعد الخصخصة هو النقاش الذي نراه على فيس بوك وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي الذي يمكنك بدء الدخول فيه من ثم محاولة معرفة الطرف الآخر، حيث ما تخصص لك من معلومات هو ما سمح به الطرف الآخر من إظهاره ، وبالطبع ستقع في أزمة إن كانت تلك المعلومات صحيحة أم لا، ولذلك قد ترى مثلًا في مجموعات فيسبوك أحدهم يقول «شايف حاطة صورة مع شباب ازاي»، أو تعليق مثل «أنت مش شايف شكلها يغضب ربنا ازاي»، ولاحظ يا عزيزي أن النقاش دائمًا ما يكون ما بين رجل وامرأة إلا قليلًا، ذلك لأن من خصخصة هذا النوع أن خصخص الصحراء للرجال عامةً، خُذ مجموعات الأسئلة كمثال حي، ويبقى عنصر آخر هل تؤول إلى شيء؟ في البدء يكون المُبادر للنقاش يسعى لشيء ولكن بفضل ضياع التخصص ودخول كل من هب ودب طاولة الحوار ينتهي بك الوضع بسؤال «هو أنا فين».

وأما عن «السخسخة» فهو ما يندرج من نقاشات فيسبوك الوضيعة حتى سائقي التاكسي والميكروباصات والأوتوبيس، ولا ننكر فضل التوكتوك، هؤلاء العائدون من أمريكا وتركتهم أمريكا ولم ترسل لهم فيزا وظلوا ها هنا بسبب الثورة -الله يخرب بيتها- وضاقت بهم الدنيا إلى هذا، الرسامون الذين ظهروا فجأة في كل أحياء وشوارع مصر يحدثوننا عن الفن الفقيد منذ أن أفلسوا، نقاشات «السخسخة» التي هي تبدأ بقول رأي ما بدون مرجعية، من ثم يعود آخر ويعدله بدون مرجعية، وتستمر القضية هكذا حتى يأتي أحدهم ويطرح سؤاله حول لماذا قد يناقش شخص يختلف معه في الأساس، وكأن حقيقةً يتوجب علينا أن نناقش فقط الناس في حدود صحة ما نقول، ومن ضياع التخصص وضياع الجهة، ستجد كوميديا لم يرتق لها ثربانتيس شخصيًا في كتاباته.

عزيزي القارئ، في رأيك الشخصي أي السُبل هي سبيل الراحة، فكر بالأمر بينما أقول الآتي.

النقاشات هي وسيلة لتصحيح الآراء، وحينما يعلن المرء رأيه هو يقول صراحةً أنه قد استطاع الوصول إلى هذا الأمر ويستطيع أن يستقبل نقد الآخرين له، وحينما ينتقد الآخرون آراءك لا عيب على الإطلاق أن تدافع عنها، ولكن العيب الحقيقي أن تكثر الثغرات في أراءك وتستمر في الدفاع عنها، والثغرات يا عزيزي تأتي بما ينفي حجتك أو التجربة التي تثبت عكسها، ما غير ذلك هي سفسطة الآخرين، لذلك من الضروري أن تقول إلى ما قد يؤول الحوار، وأنت تعرف من تحاور جيدًا.

هل الديكتاتور يحدثنا أم يجلدنا؟ حقيقةً الديكتاتور يفعل الأمرين، هل يستطيع الشعب العربي أن ينكر يومًا أنه التقى كل هؤلاء الطغاة وحاورهم؟ ولكن كان الحوار يدور بين الذين لا يعلمون والذين هم يحكمون، أنا سأحكي عن حسني مبارك الذي ولدتُ في عهده ورأيتُ في التلفاز لقاءاته في أعياد العمال وزياراته للمصانع التي تمت خصخصتها فيما بعد حينما كان يجلس ليستمع للعمال الذي طردتهم حكومته كوسيلة لبناء البلد على حد قولهم، لم يكن لدى العمال قوة الرد على حُسني مبارك حينما يسألهم «إيه الحل»، ولكن في الجهة الأخرى عندما كان يكتب الصحفيون والمعارضون الحلول كان يلجأ حُسني مبارك إلى زجهم في السجون المصرية، ولذلك عليك أن تعلم حقيقة ، أن الديكتاتور لا يناقشك إلا من خلال صورتين، الأولى حينما تتفق معه أن قراره صحيح يبدأ في شرح قراره ويترك لك الفرصة للحديث والتعبير عما تراه أنت من عبقرية ما توصل الطاغية إليه، أما الأمر الثاني أن يتركك فيما تجهل حائرًا، حتى تقر أنك لا تعلم شيئًا، وأن الله في عون «من شايل الشيلة الثقيلة»، أو يتركك أمام الآخرين مثل الصنم الذي يتأتأ.

سؤالي ببساطة، هل المجتمع الذي يناقش آراءه أو يتهرب من نقاشها هو مجتمع قادر على تحمل أعباء وتحديات بناء بلد؟ نحن عاجلًا أم آجلًا، سنكون في هذا التحدي، عمري اليوم عشرون عامًا، ولن أصل إلى الخمسين عامًا تحت مظلة الحُكم الفاشي العسكري في مصر مهما طال الزمن، هذا ما أعتقده، ولكن بينما أحاول استشفاف من بين شفاه كاتب التاريخ واستقراء أسطره موعد فجرنا المنتظر، اتسائل هل هذا المجتمع قادر على مواكبة التغيير حقًا؟ أم أن هذا المجتمع في حاجة إلى بيان خاص به، بيان يصحح له مفاهيمه ويصححون البيان وفقًا لنقاش متخصص حضاري حقيقي وتجربة فكرية تأمل أن تصبح عريقة وقتئذ، وقت صعود شمس ذاك الفجر، أم أننا سنظل في هذه «السخسخات» إلى الأبد، أنا في الحقيقة حائر من أمري.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد