كان أفلاطون حريصًا – أشدَّ الحرص – على أن يُركزَّ مواطنو مدينته الفاضلة كُلٌ على مهنته ومهارته فقط، دون أن يتعدى أحد على مهنةِ الآخر. فجهدُ المواطن ووقته ونِتاجَ عقله؛ يجب أن يُبذل داخل مهنته فقط وبذلك حسبَ رأيه يتضاعف إنتاج الفرد وتزدادُ جودة مُنتجه، فيتحقق بذلك التقدُم المنشود للمجتمع. ولن يضطرَّ الفرد للقيام بمهامٍ أخرى ليوفر احتياجاته ويُحقق رغباته، إذ إنَّ ثقافة المجتمع التكافلية تقتضي أن يقوم كُل ذي مهنةٍ بعمله بحرفيةٍ عالية، ليوفر احتياجات الآخرين، ويوفروا له بدورهم مُتطلباته.
والحقيقة أنني كُنت على خلافه، أرى أن طاقة الإنسان يجب ألا تُؤسرَ في مجالٍ منفرد. فمن الممكن أن يُبدعَ المرء في مجالاتٍ عدة ويسيرَ في طُرق مُتناقضةَ دون أن يؤثر ذلك على نتاجه! فوسائل المعرفة مُتاحة ومواقع التواصل الاجتماعي في الوقت الراهن أضحت منابرًا سهلة البلوغ لمن أرادَ عرضَ أفكاره.
وهنا تَكمُن الكارثة! سهولة الوصول والقدرة على التَحدُث وإبداء الرأي وتقديم النصائح حول أمرٍ ما، دونَ أن يَكون المُتحدث مُتخصصًا به، أتاح لنا كَم هائل من المعلومات المَغلوطة. وبصيغةٍ تراكمية، بسيطة كأثر الفراشة؛ نشأت لدينا أجيالًا تمتلك مخزونًا جيدًا من الترَّهات. وأصبحَ صعبًا علينا التفريق بين المعلومات الموثقة وبينَ الآراء الشخصية للمتحدث.
لم يَكن فيلسوفنا مُخطئًا وهو يبني مدينته الفاضلة في عقله؛ في جدوى الفكرة وفعاليتها إن طُبقت، لكن الخطأ بالإنسان الذي لا يسعه تطبيقها. إذ إنَّ ذاكَ الكائن الثرثار ليس بإمكانه أن يُنحي أنفه بعيدًا عما لا يعنيه، ولا أن يُصمتَ لسانه عن حدثٍ مرَّ من أمامه دون أن يبدي رأيه به. ولذلك بقيت المدينة الفاضلة مبنيةً في أحلامِ الفلاسفة، ولم تُزين جدرانها شمسُ الواقع.
إنَّ المجتمع العربي يمر بأوقاتٍ حرجة، بأزمة جهلٍ وأزمة معلومات في آنٍ، وعليه فإننا في حاجة مُلحة للتخصصية العلمية. التي لا تَقبل الآراء الشخصية للأفراد. ففي الواقع إننا نَظلمُ أنفسنا بأيدينا إذ نتلقى المعلومة من أفواه غير المُتخصصين، تلك المعلومة التي من شأنها أن تَقتل فردًا، أو تهدم أسرةً، أو تُفقد إنسانًا وظيفته دون وعيٍ أو مسؤولية من صاحبها أو مُتلقيها. فعلى المرء تَقع مسؤولية البحث عن المصدر الموثوق. وعن النبع العذب للمعلومات قبل أن يعمل بها. أو ينشرها في مجتمعه الصغير. وعلى الضفةِ الآخرة نظلِمُ أصحاب الشأن والتخصص بمزاحمتنا لهم في اختصاصاتهم، وهدم ما استغرق بناؤهم له سنواتٍ عدة، بدقائق نتحدث بها على الفضاء الأزرق أو بضعةِ سطورٍ نغردُ بها. «التخصصية» اليوم هو المركب الذي سيوصلنا إلى شاطئ الأمان، تَخصصية العلم والفكر، فلكُل فرعٍ من العلوم مِنبَره، ولكل منبرٍ أهلٌ يجب ألا يُشاركهم به أحد.
وفي عَصر الوباء باتت هذه الظاهرة خطِرة جدًا، ولا أبالغ إذ أقول إن خطورتها لا تَقل عن الوباء ذاته، فقد ضجت وسائل التواصل بوجوهٍ جديدة وعديدة يضيق الفضاء عنها، يُبدون آراءهم ويرشدون الناس إلى طريق السلامة، مُتحدثين عن تاريخِ المرض وطرقِ تشخيصه وربما الدواء الشافي له! فإن أنتَ سألته إن كانَ طبيبٍا مُختصًا؛ هزَّ رأسه نافيًا. وإن سألته عن مصادر معلوماته؛ تلعثمَ وأشاحَ بوجهه عنك. والأمر المُثير أن ترى هذه الوجوه على شاشاتِ التلفزة أيضًا برفقةِ مذيعةٍ رقيقةٍ تحاوره وجمهورٍ يُصفقُ له ويتناقلُ أخباره! وليس اللوم فقط على المتحدث الذي اعتدى على تخصُصٍ لا يعنيه، وإنما على المُتابِع أيضًا الذي يُصفق لمن لا يمتلكُ قاعدةً علمية يستندُ إليها في حديثه وإن كان مًصيبًا، وعلى من هيأ له طريقَ الوصول إلى الآذان. وعلى من جَعل من الفراغِ منارةً ودفعَ الناس نحوها.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست