المكان: سيدي بوزيد. الزمان: 14 ديسمبر 2110م.

 

ملأت حقيبتي ولملمت فيها أكبر عدد من الأغراض متيقنة من أن رحلتي هذه المرة ستطول، إذ  شعرت للوهلة الأولى أن المهمة ستأخذ مني وقتا وفيرا، وربما قد تكون أكبر مهمة لي منذ التحاقي بمهنة المتاعب.

 

 

أوصلني زميل لي إلى مطار شارل ديغول بالعاصمة الفرنسية باريس، حجزت تذكرتي إيابا من هاتفي المحمول وكانت الوجهة باريس سيدي بوزيد، واخترت أن تكون الرحلة لشركة خطوط عربية!

 

 

 

أما المطار فوقع اختياري على مطار جديد تم بناؤه حديثاً، واسمه مطار ” محمد البوعزيزي “، أو مفجر الثورة،  كما اعتبره أحد الركاب أثناء حديثنا، ونحن على متن الطائرة.

 

 

أثناء الرحلة، راودتني أسئلة كثيرة تباينت بين التشاؤم والتفاؤل، لكن وجود مطار في سيدي بوزيد يعتبر إنجازا عظيما أضفى على أحاسيسي شيئا من التفاؤل بأن يكون تغيير ما قد حصل.

 

 

في قسم الوصول بمطار محمد البوعزيزي وضعت لافتات ضوئية كتب عليها بلغة عربية عبارات ترحيب بكل زائر يزور سيدي بوزيد.

 

 

حينما تخرج من الباب مباشرة يستوقفك العلم التونسي المزين بالأحمر والأبيض، وبجانبه مباشرة يرفرف علم الاتحاد العربي، ذو اللون الاخضر ونجومه الاثنين والعشرين.

 

 

لم يكن معي مرافق، كما لم يستقبلني أحد في المطار، أجبرت على أخذ تذكرة الترام للذهاب إلى الفندق.

 

 

 

وفي المحطة لفت انتباهي حجم الابتسامات وخفة روح من يرتادون هذه المحطة، كما أن الكل كان منهمكا بقراءة كتب بالعربية والفرنسية ولغات أخرى، لا أعرف أنا شخصيا كلمة منها.

 

 

أثناء صعودك الترام لا تسمع سوى عبارات: أستسمح، أعتذر، لا عليك أخي!

 

 

 

 

يحدث أن تظن أنك في إحدى بلاد أوروبا الغربية المتقدمة، لولا حديث الركاب بلهجة عربية فصيحة.

أما عما يجري على متن الترام، لا أحد ينظر من الشباك، عدى الزوار الذين يكتشفون روعة المكان، أما أهل المدينة فهم منهمكون بالمطالعة.

 

 

 

 

فإذا بامرأة توحي ملامح وجهها أنها في بداية عقدها الرابع، نظرت إلي نظرة خفيفة، وابتسمت في وجهي، ثم وجهت عينيها صوب الكتاب الذي كانت تطالعه، وكان يحمل عنوانا يبدو أنه قد مر على مسامعي من قبل العنوان، وهو: “مستقبل ثورات الربيع العربي”.

 

 

بادرت إلى مناداتها: سيدتي من فضلك! هل أنت من سكان المدينة ؟

أجابتني قائلة: نعم من سكانها.

 

 

وهل يمكنك مساعدتي في الوصول إلى فندق اسمه: “الاستقلال” بجانب سوق شعبية للخضار لو تكرمت؟

 

 

 

قالت بلهجتها المرنة: يبدو أنك لم تزوري المكان منذ مدة طويلة! على أية حال نرحب بك، وبمن يزورنا، يا سيدتي لقد تم تغيير اسم الفندق، وأصبح يسمى فندق ” الثورة “، وبالتحديد ثورة الياسمين، أما السوق فلم يعد سوقا شعبيا، بل أصبح أكبر سوبر ماركت بالبلاد.

 

 

  • شكرًا لكي سيدتي الكريمة.

 

كان الشارع يعج بالسيارات، والمارة، كلٌّ ووجهته.

 

 

لكن لم يكن لهذه السيارات ضجيج، بل سيارات كهربائية صديقة لبيئة سيدي بوزيد النقية. لا تكاد تشعر باقترابها إذا لم تلمحها عيناك.

 

صعدت في سيارة التاكسي، وقلت للسائق بعد التحية: أوصلني إلى فندق  الثورة من فضلك، ولم أقل له: (فندق الاستقلال)؛ لكي لا ألفت الانتباه إلى أنّي زائرة جديدة، ليستغلني وأدفع فاتورة غالية كما أوصاني زميلي في المطار.

 

 

لكن سائق التاكسي كان خفيف الظل، ذا فطنة عالية، وحذرا جدا في تعامله مع الزبائن، وعند الوصول أعطاني فاتورة الخدمة، وبها كل التوضيحات.

 

 

 

دخلت الفندق وأسرعت في ترتيب أغراضي، أخذت حمامي على عجلة، ثم اخترت بزة أنيقة ومهنية بعض الشيء، من لونين: الأسود والأزرق المائل إلى الخضرة، وضعت مكياجا خفيفا لا يلفت الانتباه كثيرا وأحمر شفاه فاتح حملت حقيبتي اليدوية دون أن أنسى آلة التصوير والميكروفون.

 

 

 

 

خرجت من الفندق مهرولة مخافة أن يبدأ حفل التكريم، شعرت بألم في القدمين بسبب الكعب العالي، توقفت لأستريح في حديقة قرب مكان إقامة الحفل. فإذا بشاب يقرأ كتابا في جو الحديقة المعتدل واللطيف، سألني قائلا: ـ عفوا سيدتي! أتريدين أن أساعدك في حمل الحقيبة؟

 

 

ثم أضاف:  صحيح أن الكعب العالي يضفي على النساء أناقة، لكن الأطباء لا ينصحون بارتدائه كثيرا.

 

 

ساعدني هذا الشاب المرح برحابة صدر، فما كان بوسعي إلا أن أدعوه إلى حفل التكريم.

 

 

 

 

 

وصلنا إلى مكان إقامة الحفل، المكان مكتظ بالمدعوين زينت الساحة بلافتات عدة إحداها يحمل صورة شاب يضرم النار بنفسه اسمه على اسم الفندق الذي أقيم فيه. كتب عليها “الذكرى المئوية لثورة الياسمين المجيدة” وأخرى بعدها بأمتار ” تحمل شعار: “ارحل”، بينما الأخيرة كتب عليها “يسقط حكم الاستبداد”.

 

فوجئت بهذا الكم الهائل من اللافتات التي تلعن الحكم الذي كان سائدا.

 

حضور كبير لوسائل الإعلام العالمية، وشخصيات مثقفة من كل طبقات المجتمع ساهمت في التغيير.

 

الكل يترقب وصول الرئيس، خرجت من القاعة وجهت عدسة الكاميرا صوب الجهة التي سيصل منها الرئيس، فإذا بشاب في منتصف الثلاثينيات يمتطي دراجة هوائية ببزته السوداء والتي لا ينقصها عن الأناقة سوى ربطة عنق.

 

 

نظرت من حولي فإذا بعدسات الكاميرات كلها تتجه نحو نفس الهدف. بينما كنت مترددة، لكن تركيز الكاميرات جعلني أفعل ما يفعله زملائي من موفدي وسائل الإعلام الدولية.

 

 

 

دخل الرئيس إلى القاعة بابتسامته العريضة وبدأ بتحية الحاضرين والترحيب بهم، كما لم ينس حضور وسائل الإعلام المغطية للحدث.

 

 

 

مباشرة بعد الترحيب باشر المشاركة في توزيع الحلوى والمشروبات على الحاضرين قبل أن يبدأ بإلقاء خطابه.

 

 

 

 

الخطاب كتبه بعبارات اختارها هو ووجد فيها طريقا للتعبير عما يجول في خاطره:

 

أيها الحضور الكريم!

“أشكركم فردا فردا على تلبية الدعوة لحضور هذا الحفل الذي اخترنا أن يكون من مدينة سيدي بوزيد والتي كانت أول من صرخ في وجه الاستبداد، لا شك أن الجميع لن ينسى مفجر هذه الثورة والذي أحرق نفسه؛ لننعم نحن اليوم بحكم ديمقراطي، الحكم فيه بالشعب ولأجل هذا الشعب.

 

 

في يوم 14 يناير 2010م قبل قرن من الزمان رحل حكم الاستبداد عنا، وكان طريقنا نحو الديمقراطية صعبا ومتشعبا، ولم نقطف ثماره، إلا بعد كفاح وإصرار متواصلين.

 

 

 

واستطاع الشعب العربي التونسي الوصول إلى أهدافه التي أراد هو، لا تلك التي أراد الأعداء وما أكثرهم لولا وحدتنا.

 

 

 

 

أنا اليوم بينكم وفي منصب أتحمل فيه مسئولية المحافظة على تماسك هذا الشعب و قوته، وأضمن له العيش الكريم، وهذه المسئولية، أنتم من رشحتموني للقيام بها، وأتمنى من العلي القدير أن أكون أهل لها.

 

 

اجتمعنا اليوم من كل أرجاء الوطن، لنكرم هؤلاء الذين ماتوا لنعيش نحن في رغد. ولولا تضحياتهم لما كنا اليوم في مقدمة الأمم والديمقراطيات الناجحة.

 

 

بفضل هذه الثورة أن نتسلق مراتب عالية في مؤشر التنمية، وجماعاتنا تخرج منها عباقرة بفضلهم سنتقدم إلى الأمام.

 

 

فلنواصل ولنستمر على هذا النهج لنحصد أجمل النتائج.

 

 

انتهى الخطاب، بكلمة شكر ثانية للحاضرين، وما إن أنهى خطابه بدأ الجميع بالتصفيق والصراخ.

 

 

تكتظ الصفوف الأمامية برؤساء لأحزاب تونسية عريقة معارضة علمانية يسارية كانت ترى في صعود الإسلاميين المعتدلين تهديدا وخطرا يجب التخلص منه.

 

 

لكن الأمس ليس أشبه باليوم، تغيرت الأحوال، ورأي الشارع يرجح، بل ويتفق بمختلف أطيافه على حكومة تحقق لهم مطالبهم بغض النظر عن توجهاتها.

 

 

 

لطالما أنجبت الديمقراطية حكاما بسطاء أولويتهم مصلحة المواطن، ومكانة محترمة للبلد على المستوى الداخلي، شهادة في حق الحكومات الديمقراطية، حتى وإن كان عددها لا يتعدى أصابع اليد الواحدة.

 

 

 

تم تكريم عائلات الضحايا الذين سقطوا خلال الثورة، وعلى رأسهم عائلة البوعزيزي وأولئك الذين تم اغتيالهم في عز الثورة أمثال  شكري بلعيد وغيرهم.

 

 

بعد انتهائي من التصوير، تجولت في مدينة سيدي بوزيد قصدت أسواقها، ومقاهيها المميزة والتي تعج بالمثقفين وقراء الجرائد والمجلات.

 

 

وأنا أتجول سقط أحد المسنين أرضا، فإذا بشرطي ينظم المرور ترك مهمته و ذهب مسرعا لمساعدة الرجل، فنادى سيارة التاكسي التي أخذته إلى بيته، تفاجأت بحجم تعاطف سكان المنطقة مع المسنين، حتى عندما سألت أحد الشباب، فأجابني قائلا:

 

“هؤلاء هم من ضحوا لأجل الوطن علينا أن نقدم لهم ولو جزءا مما قدموا لنا”.

 

 

يبدو أن الشباب ممنونون لما قدمه هؤلاء لأجل تحقيق الديمقراطية، وتحرير البلاد من شبح الفساد والنهب والاستبداد.

 

 

حجزت تذكرة القطار السريع الذي يربط بين عواصم دول الاتحاد، والوجهة ميدان التحرير في وسط القاهرة.

 

ترقبوا بقية القصة

 

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد