تدخل المسألة السورية عامها الخامس قريبا، في منطقة تتداعى وتتآكل أمام الأحداث وأمام الاختراقات الخارجية، من المهم اليوم التوقف قليلا لرسم الخريطة الاستراتيجية للشرق الأوسط انطلاقا من معطيات الواقع.

بعيدا عن المزايدات الإعلامية، فقد كشفت دينامكية الأحداث في سوريا عن عمق أزمة القوة التي تعيشها الوحدات السياسية العربية المكونة لما يعرف بالشرق الأوسط ، فإذا رسمنا الخريطة الاستراتيجية الشرق أوسطية سوف لن نجد إلا وحدة أو وحدتين مما يمكن تصنيفهما ضمن دول عربية قوية، من منطلق أن ميزان القوى الإقليمي تملكه وحدات غير عربية، استطاعت الوصول إلى عمق استراتيجي تم بناؤه بمقومات داخلية، وخارجية  أهمها  ضعف الوحدات الأخرى، ضمن ثلاثية هي: إسرائيل، إيران، وتركيا، مع وجود بعض القوى العربية التي تحاول جاهدة المحافظة على حضورها الاستراتيجي المتأرجح، ولعل المملكة العربية السعودية هي القوة العربية الوحيدة اليوم التي يمكنها إكمال الضلع الرابع للمركب الاستراتيجي للشرق الأوسط، والمكون من إسرائيل تركيا وإيران.

يجب الإشارة ربما إلى أن إضعاف الفاعل السعودي اليوم هو إضعاف لكامل القدرة الاستجابية للمنطقة العربية؛ من منطلق أن السعودية هي اليوم تلعب دورا وسيطا بين المنطقة العربية والقوى غير العربية المتاخمة لها جغرافيا، وكذلك بين المنطقة العربية والقوى الكبرى، قد لا تكون هذه الوساطة بالمفهوم الدبلوماسي والسياسي الآلي للكلمة، ولكن استراتيجيا هذا الحكم يمكن التسليم به، لذا ينبغي فحص القدرات الاستراتيجية للفاعل السعودي بواقعية وبحياد، لأن أي سوء إدراك، أو قراءة غير موضوعية  للمدى الاستراتيجي للسعودية، ستنتج عنه عواقب وخيمة مستقبلا.

ولعل أهم هذه العواقب: زيادة القدرة لدى القوى الأخرى؛ لأن منطق التوازنات الإقليمية يشتغل وفقا لثنائية صعود/نزول، قوة/ضعف، وغير ذلك، فقوة السعودية هي في الأساس عملية كابحة تبقي الفاعل الأخر المنافس غير قادر على لعب أدوار تخرج عما يجب أن يكون، من الملاحظ أن قوة المملكة العربية السعودية تنبع من الداخل، أي من النظام السياسي المستقر والمتحكم في زمام القرارات الاستراتيجية، ومن بيئة إقليمية خليجية، توفر الدعم الكامل سياسيا واستراتيجيا، لا يمكن في أي حال من الأحوال فهم فلسفة المملكة العربية السعودية في التحرك استراتيجيا بعزلها عن الشركاء الخليجيين، سيما دولة قطر، والإمارات العربية المتحدة ، مع إبقاء الريادة طوعا وذكاء للفاعل الأكبر.

يوفر الشركاء الخليجيون للمملكة العربية السعودية عمقا استراتيجيا، قد لا يمكن فهمه من الناحية الخشنة، من منطلق أن ديموغرافياتها لا توفر قدرات عسكرية قوية،  لكن التغلغل القطري والإماراتي ماليا وإعلاميا في الجسد الإقليمي، وحتى العالمي يوفر للفاعل السعودي الكبير هامش مناورة، ومسرحا بديلا للعب بأوراق الضغط التي قد تكون أكثر فاعلية من الدبابة في كثير من الأحيان.

فدولة قطر بحجم استثماراتها العنكبوتية، وقاعدتها الإعلامية، وكذا الإمارات  تشكلان سندا قويا تتكئ عليه الإستراتيجية السعودية ، ومن هنا ينبغي الإشارة إلى أن إبقاء البيت الخليجي مستقرا ومتوازنا، هو ضرورة استراتيجية ملحة ومبدئية بالنسبة للفاعل السعودي؛ لأن أي خلل قد يؤدي إلى تعريض الاعتمادية الخليجية الاستراتيجية المتبادلة للعطب، وهذا ما سيدفع ثمنه كل فاعل على حدا.

في مستوى أعلى، تبقى المملكة العربية السعودية زبونا استراتيجيا للولايات المتحدة الأمريكية، رغم أن التجارب التاريخية تشير إلى أن الفاعل السعودي قادر على المجازفة بالخروج من المظلة الأمريكية إذا اقتضت البيئة الاستراتيجية، كصفقة الصواريخ الصينية أيام الحرب العراقية الإيرانية مثلا، وهنا ينبغي الإشارة إلى أن هذا النوع من التحالف الاستراتيجي لا يشكل دائما قوة دافعة للعب أدوار تتواءم مع الحجم السعودي في المنطقة، فكثير من الأحيان يبدو أن الدور الأمريكي يعرقل نظيره السعودي في المنطقة، ولهذا يجب ربما من الناحية الاستراتيجية أن تحيد شراكتها مع الفاعل الأمريكي عن مواقفها في المنطقة؛ لأنه على الأرض أمريكا بعيدة عن الشرق الأوسط، أمنها المباشر غير معرض للعطب إذا نشب أي نزاع محتمل، مقارنة مع السعودية التي تتواجد جغرافيا ضمن الشرق الأوسط المتناقض، والذي يشتغل دون قواعد واضحة ترسم حدود دور كل طرف.

إذا ما أبعدنا شكلا الفاعل الإسرائيلي عن مجريات الأحداث في سوريا سنجد أنفسنا أمام المثلث الصلب المتكون من تركيا، إيران، والسعودية، لكل فلسفته، وأهدافه ورؤيته فيما يتعلق بتفسير ما يجري في سوريا، وما يجب أن تكون عليه  الحلول، فالبنسبة لإيران بقاء نظام الأسد ضرورة استراتيجية ، وللباقي رحيله هو الحل الأمثل لحالة الاحتراب.

ربما، يفسر هذا الموقف عبر ثلاث زوايا رئيسة تتكئ عليها باقي التفسيرات: أولا، التيقن في عدالة القضية السورية، وأحقية الشعب السوري في أن يقول كلمته، وهذا مبدأ تمليه الأخلاق السياسية، ثانيا، كبح جموح إيران، وعرقلة تغلغلها أكثر فأكثر في جسد النظام الإقليمي العربي بطريقة سلبية، ثالثا، وضوح الخطر الإقليمي، ومستقبل الأمن الإقليمي العربي، حيث إن الأوضاع في سوريا، مصحوبة بالحرب على الإرهاب والديناميكيات الجهادية من شأنها أن تعصف بما تبقى من أشكال الاستقرار في كل المنطقة.

كتب سلمان شيخ ، في 2012: “إننا الآن نواجه احتمالا مخيفا في بلاد الشام: قوس من الصراع الذي تغذيه الطائفية، والذي يمتد من شواطئ البحر الأبيض المتوسط شرقا إلى الخليج الفارسي”، وهذا يفسر تدخل أطراف إقليمية استباقا لئلا تعصف ديناميكية الأحداث بما هو موجود من مكاسب أمنية، وقد برز وعي سعودي، قطري، وتركي بأشكال الاختراق الأمني التي يمكن أن تحدث، لكن هذه المواقف المشتركة لم تستطع أن تترجم بشكل محايد عن حسابات إقليمية ومشاحنات نشبت تحت سقف البيت المعادي لحكم الأسد، فرغم أن السعودية وقطر تتقاسمان هدف إسقاط النظام وإضعاف راعيه الإيراني، فإنهما تنزعان إلى دعم مكونات منفصلة في المعارضة، بدلا من دعم الهيئات الجامعة، وهنا يلحظ أن الإمارات والكويت تنهجان النهج السعودي، فيما يشار إلى قرب رؤى تركيا من نظيرتها القطرية ، هذا المنطق  في الدعم الانتقائي يؤدي تلقائيا إلى شرخ في صفوف المعارضة.

ليس بالسر أن الإشكالية فيما يتعلق بالمحور الرافض لبشار الأسد هي  قضية مفاهيم وتعريفات، فلا يمكن إنكار وجود إدراك وقناعة مشتركتين بأنه يجب على بشار التنحي، لكن المفهوم القطري لشكل المعارضة وهويتها يختلف بمقارنته مع المفهوم السعودي ، وهذا ربما يمكن سحبه حتى على تركيا، هناك حاجة ماسة وحيوية لإعادة ترتيب هذا البيت المناوئ لنظام الأسد من الداخل، من حيث بناء أرضية مفاهيمية وهوياتية للمعارضة يتفق عليها، ويسلم لها مشعل النضال ضد النظام، مع دعم سياسي وحتى مادي، دون هذا، تبقى الجهود الفردية مجرد مخرجات تسويقية وإشهارية خالية من الفعالية على أرض الميدان، فلا ننسى أن أصدقاء بشار حددوا شريكهم وهو نظام بشار الأسد، والجيش الذي يحميه، فيما تغيب تحديدات واضحة لهوية الفاعل الذي يعول عليه خصوم نظام الأسد، إذن قوة المحور الرافض للأسد تزيد عندما يتحرك دبلوماسيا وميدانيا  ضمن هوية واضحة ، تحظى بالإجماع حول المعارضة السورية.

إذن ، ما يمكن استنتاجه ببساطة هو أن الأدوار المتعاظمة للقوى غير العربية، والذي كان نتيجة لتراجع قوة تقليدية مؤثرة إلى حد ما، كمصر، ليبيا والعراق، مع بقاء السعودية في خط المواجهة، عمق من استحالة بناء حل عربي تحت سقف الجامعة العربية ربما، إضافة إلى اختراقات القوى الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وحرب فرنسا على الإرهاب، والذي من شانه تقوية حكم الأسد أكثر، هذا الجو الاستراتيجي ألقى بظله على القضية الأساسية، وهذا ما كان يسعى إليه نظام الأسد وأصدقاؤه منذ البداية، أي  دفع القوى الكبرى إلى أن تشعر بأنها في حاجة إلى النظام في مواجهة التنظيمات الإرهابية، رغم أن نظام الأسد يبدو أخطر على سلمية العلاقات الدولية، وقضية إسقاط الطائرة الروسية في الأراضي التركية، وما تبعه من مشاحنات دليل على أقل ما يمكن حدوثه إذا استمر النقاش الإقليمي والدولي حول جدلية رحيل بشار من عدمه، والخريطة الاستراتيجية للشرق في شكلها الحالي، أي في ظل  غياب عمل عربي فاعل ومؤثر لا تخدم المنطقة العربية، ولا الشعب السوري؛ لأنه ببساطة قضايا العرب والسوريين يتولاها غيرهم.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد