الطرقات تعجّ بالسيارات، السبب ليس ـ بالطبع ـ الحفر والمطبات، أو زحام الشوارع والعربات، لأنّ المواطن الفلسطيني اعتاد على احترامها تماماً كما يحترم ما للسير من إشارات، بل السبب هو الأطفال المنتشرون على الطرقات، حتّى أنّك تكاد ترى على كلّ حفرة طفلاً يقف ويمدّ يده. خجولٌ لا يجرؤ أن ينظر إلى عينيك. لم يتعلّم اللفظ بعد، إلاّ أنّ جملة: “كرمال الله اشتري مني يا عمو!” تعلّمها كما تعلّم التنفّس.

هؤلاء الأطفال ظهروا في الشوارع والحدائق والمنتزهات، إلاّ أنّهم أتوا من ظلمة المجتمع الصغير (الأسرة) إلى ظلمة المجتمع الأكبر (الشارع)، أطفال تربّوا في الشارع، اكتسبوا مبادئ الفقر والعنف وما عرفوا يومًا قانوناً أو مسؤوليةً. هذا ما أدّى، ويؤدّي إلى انحراف أطفال الشارع وقيامهم بأعمالٍ مخالفة للقانون، الانحراف لدى هؤلاء الأطفال هو سلوك أخلاقي قابل للتغيير، من هنا يكمن دور القانون في إعادة تأهيل الأحداث المنحرفين، وليس معاقبتهم.

وتشير أرقام “مركز الإحصاء الفلسطيني” إلى وجود 65 ألف طفل عامل تتراوح أعمارهم بين 7 أعوام و14 عاماً في مجمل الأراضي الفلسطينية. ويرتفع الرقم إلى أكثر من 102 ألف طفل يعملون في سنّ تقل عن 18 عاماً، وهو العمر المعتمد في اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة.

ويعد هذا العدد كبيراً بالقياس إلى عدد السكان، ويعمل هؤلاء باعة في الشوارع، أو عمالاً وحمّالين في الورش والمصانع والمنشآت الاقتصادية المختلفة.

حيث تذهب مع عائلتك إلى أحد المنتزهات؛ لتروح عن نفسك من يوم عمل شاق، وتتمتع بأجواء يعمها الفرح والسرور والهدوء، فجأة يأتي إليك أحد هؤلاء الأطفال متوسلا أن تبتاع منه بعضا مما يحمل، فتتحول فرحتك إلى حزن ورأفة على هذا الطفل، وما وصل إليه من حالة يرثى لها، تجده يتنقل بين الطرقات؛ ليبيع كل ما يملك، ويحرص ألا يعود إلى بيته أو رب عمله وهو بعد لم ينته مما في جعبته، يقضي ساعات طوال بين الحدائق والمنزهات متجولا أو رحال.

وعلى النقيض تجد الكثير من أقرانه على مقاعد الدراسة يتعلمون، وفي المنتزهات والملاعب يلهون، يعيشون حياة أخرى تختلف كل الاختلاف عما يعانيه هذا الطفل المسكن، فبدلا من أن يقضي يومه في الصفوف المدرسة، ويقف كل صباح ليردد النشيد الوطني، ويلقى تحية العلم الفلسطيني، لينشأ على حب الوطن والتفاني من أجل كرامته والدفاع عنه، تجده يردد جمل التوسل والرجاء، ويلقي تحيته على من يشتري منه بعض الأشياء، ليريحه من الحمل الثقيل الذي وضع على كاهله، تراه في أوقات يتمتع بكل الحيوية والنشاط، وفي أخرى تجده يفترش الرصيف نائما؛ ليعيد ما فقده من نشاط.

هي ظاهرة أصبحت متكررة، وبشكل متزايد، بقطاع غزة في الآونة الأخيرة، هي ثقافة جديدة على مجتمعنا الفلسطيني، ولم نعهدها على أطفال فلسطين، وأشبال الثورة.

لكن لو تمعنت في هذه الظاهرة، وبحثت عن أسبابها ومسبباتها ستجده ـ وبلا شك ـ إهمالا في داخل الأسرة أولا، ثم تقصيرا من الحكومة والقيادات ثانيا، فبدلا من أن توفر الحكومة مناخا هادئا لهم وملاعب أو منتزهات تجدد روح الطفولة بداخلهم، فهي تزيد من معاناتهم بإهمالها لمشكلتهم وتهميشها، حتى تتفاقم لتصبح ظاهرة منتشرة في ربوع الوطن، ثم تسن القوانين لمعاقبتهم وتحدد غرامات لمن يقبض عليه منهم.

وما يزيد من معاناة هذه الفئة هو الحصار الغاشم الذي يمر به قطاع غزة منذ ثماني سنين عجاف، وما تخللها من حروب وويلات ودمار، تجد بعضهم فقد أهله ومنهم من بقي وحيدا بلا أب يعيله أو أم تحتضنه من برد الشتاء القارص.

لن أطيل عليكم في مقالي، ولن أنغص عليكم يومكم الهادئ، لكني أتمنى منكم أن تنظروا قليلا لمعاناتهم في ظل هذه الأجواء الممطرة والباردة، ولا أرى من حل لهذه الظاهرة سوى مراقبة حكومية لأطفال الشوارع، ومعاقبة كل من يستغل فقرهم وحاجتهم فيحولهم إلى متسولين وباعة متجولين، أو توفير حماية لهم، سواء بشكل رسمي من الدولة أو مؤسسات وجمعيات تعيلهم وتساعدهم؛ ليعودوا إلى طفولتهم التي ضاعت في زحام الطرقات، وفي الختام أرجو من كل مسئول أن يتخيل، ولو للحظة من الثواني، أن طفله أو حفيده هو أحد هؤلاء الأطفال، هل سيرضى بهذا ويقف متفرجا على معاناته، عساي أن أكون نجحت في توصيل معاناتهم، ووضع أيدي المسئولين على جراح أطفال الشوارع، وتسليط الضور على ظاهرة عمالة الأطفال.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد