منذ ما يزيد عن عام ونصف وبينما كنت أستمع لمحاضرة دراسية، إذ بالأستاذ يستدرك بعد حديثه عن مضمون الإعلام، وحاله المتردية «لكننا هنا نتكلم فيما ينبغي أن يكون»، لعل الزمن قد توقف حينها لأجد رأسي تَضِجُ بالأسئلة التي تتنازعني للإجابة عنها؛ ماذا عن ما هو كائن؟ هل سيطول انتصاره على «ما ينبغي أن يكون»؟! هل قُدّر لدارس الإعلام أن يعاني تلك الهُوّة الواسعة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون؟!

ما فتئت تلك العبارة تؤرقني بما فجرت في داخلي من تساؤلات ثقيلة؛ فهذه الفجوة الكبيرة تعني أن «ما ينبغي أن يكون» مُغيّب كما هي الحقيقة في غالب ما تقدمه وسائل الإعلام، ما الجدوى من الدراسة إذا كان «ما ينبغي أن يكون» سيبقى حبيسًا في الكتب والأدمغة ومدرجات كلية الإعلام؟ ثم أنّى لدارس الإعلام أن يُغيّر وهو مغلول بين الخيارات الضيقة الماثلة أمامه؛ إما أن ينزل إلى الدرك الأسفل ويبيع ضميره أو يظل مع مبادئه في الأبراج العاجية يُنظّر، ما من خيار آخر واقعي؟

ثمة اتفاق مجتمعي على أن الأداء الإعلامي يضر ويفسد أكثر بكثير مما ينفع ويصلح، يخفي أعظم مما يجلي ويوضح، للدرجة التي جعلت أحدهم يقول لي عندما علم بأنني أدرس في كلية الإعلام: «ماذا يعلمونكم؟ كيف تكذبون!»، شعرت بالذهول، لأجد نفسي أبرر بأننا في الكلية نتعلم وحسب فهي دار علم لا علاقة لنا بذاك الهراء الحاصل في وسائل الإعلام، ثم مهلًا، تساءلت كيف ذلك! ما فائدة العلم إذا لم ينجم عنه عمل، أو ليست العملية التعليمية في مجال الإعلام تتحمل جزءً من المسؤولية عن حال ذلك الواقع الإعلامي المخزي، حتى لو كان ضئيلًا.

يتراءى للناظر من بعيد أن الأمر هين، لكن واقع الإعلام المر ينبئنا بأن كثيرًا من المبادئ التي تبنى عليها دراسة الإعلام لا تطبق، كأسطورة الحيادية والاستقلالية والموضوعية، فلعلها للمحاضرات والكتب، فمثلًا مما لا تخبرنا به كتب الإعلام التي ندرسها قبل ممارسته كمهنة «الإعلامي يعمل لحساب من يدفع له في الغالب» وهذا يهدم كل المثاليات البراقة التي تبهرنا في الكلية، بالمقابل من المعتاد جدًا أن يقول الأساتذة في محاضراتهم إنه لا يوجد حياد إعلامي أو أن هناك سياسة تحريرية لكل وسيلة إعلامية يجب التقيد بها، ربما من «قضاء الواجب»، ثم ماذا بعد؟ هل نحن عاجزون حتى بما تعلمناه في الكلية من مبادئ ومثل وقيم عليا؟ أكاد لا أصدق أن الإجابة قد تكون «نعم»، وأنا التي ما زلت أهرب من سماعها، ليتني أقنع بذلك وأرتاح.

نعم تغيرت أدوات الإعلام، وأضحى من الصعب إخفاء ما يجري، وبرزت قوة وسائل التواصل الاجتماعي، لكن ثمة حلقة مفقودة والصورة تبقى غير كاملة ضبابية أو مزيفة، أو ليست العبرة بالنتائج المتحققة، فما الجديد في ميدان الوعي؟ الواقع يشي بوضوح بأن مهمة الإعلامي غائبة في وعي المجتمع، والتي أحسب أنها لو ترسخت فيه لتغيرت أحوال كثيرة، فمن الإنصاف القول إنني – بدراسة الإعلام – عرفت مهمة الإعلامي الأولى والأساسية، ولا أدري أهو غريب أن أعتبر هذا إنجازًا أم لا، فمهمة الإعلامي التي تبدو عسيرة للغاية «ليست حتى أن يقول الحقيقة» وإنما «أن يبني العقلية الناقدة»؛ العقلية التي تعُرض أمامها زوايا القضية كاملة جلية دون اقتصاص، لتعرف هي الحقيقة من تلقاء نفسها، العقلية التي تقيم وتغربل وتفرز، فلا تقبل الأمور على علاتها.

مؤسفٌ أن بعض اليأس يعتريني من مجهول ممارسة المهنة، بعد مرور ثلاث سنوات ونصف على دراسة الإعلام، فالإحباط يتنامى في داخلي، لدرجة أنني خلُصت في وقت ما إلى نتيجة مفادها أن ممارسة الإعلام حري بها ألا تكون مهنة، حتى لا تشترى الذمم، لكنني عدت أدراجي بعدما تمثل أمامي شبح الواقع الاجتماعي العام، فذمة القاضي قد تُشترى، وكذلك الداعية إلى الله والعالم وغيرهم.

أخيرًا، هل تبقى أسئلةُ دواخلنا بضجيجها وصخبها عالقة طويلًا تنتظر الإجابات؟ إذ كيف يتسنى لدارس الإعلام أن يجمع بين الدراسة باعتبار «ما ينبغي أن يكون» في عالم كلية الإعلام الفاضل؟! وبين ممارسة المهنة – فيما بعد – التي تتقيد غالبًا باعتبارات ما هو كائن لا «ما ينبغي أن يكون»، كيف له أن يسبح كما لو كان مكتوفًا بين هذه التناقضات؟

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد