ماذا تعرف عن أعظم حكّام الدولة العباسية ذكاءً ومكرًا!

تعْدَك السطور القادمة أن تقدم لك مخلوطـًا سحريًا يدخلك في حالة من الحيرة وعدم القدرة على إصدار حكم قاطع على شخصية تختلف أو تتفق معها لكنها تظل علامة بارزة في تاريخ الدولة العباسية خاصة والتاريخ الإسلامي بشكل عام.

لم يكن الطريق أمام أبو جعفر المنصور – أهم الأعمدة التي قامت عليها أركان الدولة العباسية- مفروشًا بالورود حتي يستتب له الحكم سريعًا ويقوّض ما بقي من جماح بني أمية ويتخلص من فلولهمـ بل وصل الأمر للقتل!

شخصه وبأسه

«اللهم بارك لي في لقائك»، كان ذلك آخر ما نطق به المنصور قبل موته

وُلد المنصور في سنة خمس وتسعين أو نحوها. ضرب في الآفاق ورأى البلاد، وطلب العلم وكان في صباه يلقب بمدرك التراب.

جاء في كتاب «سير أعلام النبلاء»: «وكان فحل بني العباس هيبة وشجاعة، ورأيًا وحزمًا ، ودهاء وجبروتًا، وكان جمّاعًا للمال، حريصًا، تاركـًا للهو واللعب، كامل العقل، بعيد الغور، حسن المشاركة في الفقه والأدب والعلم».

قال المنصور عن نفسه: الملوك أربعة: معاوية، وعبد الملك، وهشام بن عبد الملك، وأنا.

قال نوبخت المجوس: «سجنت بالأهواز ، فرأيت المنصور وقد سجن – يعني وهو شاب – قال: فرأيت من هيبته وجلالته وحسنه ما لم أره لأحد، فقلت: وحق الشمس والقمر إنك لمن ولد صاحب المدينة؟ فقال: لا، ولكني من عرب المدينة. قال: فلم أزل أتقرب إليه وأخدمه حتى سألته عن كنيته. فقال: أبو جعفر. قلت: وحق المجوسية لتملكن. قال: وما يدريك!؟. قلت: هو كما أقول لك. وساق قصة. وقد كان المنصور يصغي إلى أقوال المنجمين، وينفق عليهم، وكان ذلك من نواقص فضيلته.

حنكته في الدفاع عن ملكه

032116_0811_1.jpg

لما تولى المنصور الخلافة «في ذي الحجة 136هـ وحتى ذي الحجة 158هـ» كان هناك ثلاثة مخاطر تحدق به وتنذر بزوال ملكه فعمل على إعمال ذكائه لترويضهم والتخلص منهم؛ تمثلت هذه المخاطر في:

(1) منافسة عمه عبد الله بن علي له في الخلافة، وكان رغم جلالة قدره عند بني العباس لكنه كان قليل الحزم وقيل إنه خرج عليه في أول ولايته.

(2) اتساع نفوذ أبي مسلم الخراساني، أحد أعمدة الدولة العباسية فكان أبو جعفر شديد الحنق عليه، فهو لا يرضيه أن يكون له في الأمر شريك ذو سطوة وسلطان.

(3) بنو عمومته من آل علي بن أبي طالب الذين ما يزال لهم في قلوب الناس مكان، خاصة محمد بن عبد الله بن حسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فخاف أبو جعفر أن يحاول الخروج عليه.

فقرر أن يضرب عمه عبد الله بأبي مسلم الخرساني وقال: «لا أبالي أيهما يصيب»!

فأرسل جيشًا بقيادة أبي مسلم الخراساني والتقى به عند «حران» ودارت معركة بين الفريقين لمدة ستة أشهر وظلت المعركة سجالاً ثم تحولت إلى أبي مسلم الذي انتصر، وفر عبد الله بن علي إلى البصرة عند أخيه سليمان، فعلم بذلك أبو جعفر فبعث إلى أبي سليمان يأمره بإحضار عبد الله بن علي إليه، وأعطاه الأمان ما جعله يثق به، فجيء به إلى المنصور سنة 139هـ، فأمر بحبسه وحبس من كان معه وظل في حبسه حتى مات سنة 147هـ، وكانت هذه غدرة من المنصور. ثم ما لبث أن بدأ التخطيط لأبي مسلم الخرساني الذي قرر الذهاب لمقابلة أبي جعفر المنصور بعد ضغوط مورست عليه وتمادى المنصور في المكر فأعطاه الأمان، وأظهر له عند دخوله المدائن الاحترام والتقدير ومراسم الاستقبال، ولكنه كان عازمًا على قتله غدرًا، وبالفعل قتله وهو يكلمه آمنًا على يد بعض حراسه.

أما الخطر الثالث محمد بن عبد الله بن الحسن بن زيد الذي رفض مبايعة المنصور واختفى في عهده، فقد ظل المنصور يبحث عنه ثم لما لم يجده اعتقل أباه وصادر أمواله ثم اعتقل بني الحسن كلهم واستعمل معهم المنصور أشد أنواع العذاب ونقلهم إلى سجن بالعراق، ومات أكثرهم في الحبس وكان من مكر أبي جعفر الخليفة أنه كتب إلى محمد على ألسنة قواده يدعونه إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه؛ ما جعل محمد يتوهم أن أغلب الأمصار معه وقرر الظهور بالمدينة، وكان ذلك أول يوم من رجب سنة 145هـ، أعانه أهل المدينة وصعد منبر الحرم وخطب فيهم. ودبّر أبو جعفر أمره تدبيرًا محكمًا وحاصر المدينة وتكررت تجربة ابن الزبير فقد انتفض الناس من حول محمد الذي قتل بعد أن أظهر شجاعة فائقة، وذلك في رمضان سنة 145هـ. وبمقتل محمد استتب الأمر لأبي جعفر وتوطدت أركان الدولة الناشئة، فلم يعد هناك في الأفق مخاطر داخلية.

بناء بغداد

شرع المنصور في بناء بغداد كمقر للخلافة العباسية، وأتم بناءها سنة 146هـ. وقيل إنه أنفق على بغداد ثمانية عشر ألف ألف دينار، قال الخطيب البغدادي: لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها وكثرة علمائها وأعلامها، وحشر إليها المنصور العلماء من كل بلد وإقليم، حتى صارت أم الدنيا وسيدة البلاد ومهد الحضارة الإسلامية في عهد الدولة العباسية، وأربى سكانها على مليونين.

كيف كان يحكم المنصور

كان المنصور أعظم رجال آل العباس شدة وبأسًا ويقظة وثباتًا، كان شغله في صدر النهار بالأمر والنهي، والولايات، والعزل، وشحن الثغور، وأمن السبل والنظر في الخراج، والنفقات، ومصلحة معاش الرعية، فإذا صلى الظهر دخل منزله واستراح إلى العصر، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته ونظر في مصالحهم الخاصة، فإذا صلى العشاء نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والآفاق وشاور سُمّاره من ذلك فيما أرب، فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره، فإذا مضى الثلث الثاني قام من فراشه فأسبغ وضوءه وصف محرابه حتى يطلع الفجر، ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيجلس في إيوانه.

موت أبي جعفر

مات أبو جعفر سنة 158هـ في طريقه إلى الحج، ودفن بمكة، وقد كتم الربيع الحاجب موته حتى أخذ البيعة للمهدي من قادة بني هاشم ثم دفن.

قالوا: وكان آخر ما تكلم به المنصور أن قال: «اللهم بارك لي في لقائك».

 

مات المنصور، وترك ورائه تاريخًا حافلاً أسس خلاله دعائم دولة الخلافة العباسية، دولة قوية، لها مهابتها وقوتها وكان يقول: ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر، لا يكون على بابي أعف منهم، هم أركان الدولة، ولا يصلح الملك إلا بهم:

أما أحدهم: فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم.

والآخر: صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوى.

والثالث: صاحب خراج، يستقضى ولا يظلم الرعية، فإني عن ظلمها غني.

ثم عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات، يقول في كل مرة: آه. آه. قيل: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصّحَّة «رجل يخبرني بما يفعل هؤلاء لا يزيد ولا ينقص».

هكذا كان المنصور حريصًا على إقامة دولة العدل، فقد كان على بأسه وحزمه كارهًا للدماء وإراقتها إلا بحق ولعل في كلمات وصيته لابنه المهدي قبل موته ما يجعلك تقف كثيرًا أمام عِظم هذه الشخصية.

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

المنصور, تاريخ

المصادر

سير أعلام النبلاء – الذهبي.
تاريخ الدولة العباسية – د. محمد سهيل طقوش.
موقع قصة الإسلام «مقالات الدكتور راغب السرجاني».
عرض التعليقات
تحميل المزيد