عندما نقلِّب صفحات التاريخ الإسلامي ونجوس خلال حقبه ومراحله، نمر بالكثير من القادة العظماء النابهين، وعلى وجه الخصوص بعض أولئك الذين نشأوا في بلاط الخلافة من أبناء الخلفاء في مراحل القوة والازدهار، الذين خبروا الحكم وترعرعوا في ظلاله، فازدادوا خبرة وحنكة وفهمًا للعلاقات الدولية والإدارة السياسية والعسكرية، وسوف نمر سريعًا في حياة أحد أعظم الخلفاء العرب الفاتحين نقف أمام هامة سامقة، ونصف شيئًا من عظيم سماته وكبير أفعاله، إنه أعظم خلفاء بني أمية، عبد الملك بن مروان.

أتته الخلافة منقادة، ففي غرة رمضان من عام 65 هجرية وجد عبد الملك بن مروان نفسه خليفة بينما كان جالسًا يتلو كتاب الله.

ففي غداة ذلك اليوم سرى في جميع أرجاء دمشق (عاصمة الخلافة) نبأ وفاة الخلفية مروان بن الحكم دون أن يكمل العام الأول من خلافته.

كان عبد الملك بن مروان قوي الإرادة، ثابت العزم، يصر على الوصول إلى غايته، مهما كان في طريقه من العقبات، ومهما حاول المترددون أن يثبطوا من همته، وكانت الشجاعة لديه موفورة، فيقدم على إرسال الجيوش ومنازلة الخصوم وخوض المعارك، دون أن يتهيب الصعاب أو يخشى المخاطر. وبقوة الإرادة والشجاعة استطاع عبد الملك أن يصل إلى غايته من الانتصار على خصومه وتحقيق وحدة المسلمين والعرب.

وكانت تصاحب هاتين الصفتين عند عبد الملك بن مروان صفة أخرى هي : (الحزم) وهو الثبات في مواجهة المواقف، واتخاذ القرارات، والبت في الأمور دون تردد. ولذا قالوا: «كان معاوية أحلم، وعبد الملك أحزم». وبذلك شهد له أبو جعفر المنصور – وقد ذكر ملوك بني أمية- فقال: «كان عبد الملك أشدهم شكيمة، وأمضاهم عزيمة». فإذا أردنا أن نجمع هذه الصفات كلها في صفة واحدة، ونجعلها صفة تعبر عن شخصية عبد الملك – قلنا إن الصفة التي نستخلصها من تصرفات عبد الملك وأعماله وسياسته هي: القوة.

بهذه القوة وبهذه الشخصية الحازمة قضى عبد الملك بن مروان على حركات التمرد من ثورات العلويين والخوارج، وعمل على تمكين دولته، وتوسيع رقعتها، وإصلاح شؤونها، وبناء مجدها ونهضتها، فقاد الجيوش وراح يدك القلاع ويفتح البلاد، ولو لم يكن له من فضل إلا أنه حقق وحدة العرب والإسلام، وأنقذ الأمة من شرور الانقسام، وأخطار الحرب الأهلية لكفاه ذلك من عمل مجيد يؤهله لأن يدرجه التاريخ بين العظماء، الذين أسدوا أجل الخدمات لأممهم.

كان عبد الملك بن مروان في بداية حكمه بحاجة إلى تقليل الأعداء وتأمين بعض الجبهات؛ ريثما يتسنى له القضاء على الفتنة والحرب الأهلية وترتيب البيت الداخلي، فاضطر إلى مصالحة الروم، كما استطاع أن يتخلص من الجراجمة الذين يتمركزون في الجبال بين أنطاكيا ولبنان على يد أحد قادته الثقات، وهو سحيم بن المهاجر. ولم تدم الاتفاقية مع الدولة البيزنطية طويلًا، لأن الروم نقضوا العهد، وسرعان ما بدأ بالرد على تحدياتهم بعد أن انتهى من أمر عبد الله بن الزبير ووحد الدولة تحت زعامته.

كانت أهم الفتوحات التي تحققت في عهد عبد الملك هي فتوحاته في بلاد المغرب، فعلى الرغم من انشغاله في بداية حكمه بقتال الخوارج في الجبهة الشرقية والروم بالجبهة الشمالية، فقد قرر أن لا يدخر جهدًا في إمداد زهير بن قيس وإظهار قوة الدولة أمام الروم في الجبهة الغربية، فجهز جيشًا قويًّا سنة 69هـ. وأرسله إلى زهير بن قيس في برقة، وبذلك أخذ عبد الملك يحارب الروم وحلفاءهم المعتدين، في الوقت نفسه الذي كان فيه مشغولاً بالفتنة الداخلية، وهذا يشهد لعبد الملك بقوة العزيمة، وقوة إيمانه بالله وثقته بنصره، ورغبته في الجهاد في سبيل الله، وحرصه على الدولة وصالح المسلمين، وأحرز الجيش الإسلامي بقيادة زهير النصر الكبير على قوات الروم وحلفائهم، ولم تتوقف فتوحات عبد الملك عند المغرب العربي، وإنما عين أخاه محمد بن مروان واليًا على جزيرة قبرص وأرمينية وقائدًا للجيش هناك، حيث تصدى لمحاولة الروم غزو بلاد المسلمين، وأنزل بهم هزيمة ساحقة ثم تابع عبد الملك في أعماق الإمبراطورية البيزنطية يستولي على المعاقل ويبني الحصون.

وفي الجبهة الشرقية عين عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي واليًا على المشرق كله بما فيه خراسان وسجستان فاختار الحجاج المهلب بن أبي صفرة بعد أن انتصر على الخوارج، وعينه والياً على خراسان. فقدم إليها في عام 79هــ . فأخذت الأمور في الاستقرار، وبدأ عهد من النشاط والتقدم واستؤنفت الفتوحات، وهكذا اندفعت قوة العرب والإسلام إلى الأمام تفتح المعاقل وتستولي على الحصون داخل دولة الدولة البيزنطية، منذ تحققت الوحدة على عهد عبد الملك بن مروان، واستمرت في اندفاعها في عهد الوليد ثم سليمان حتى بلغت الغاية في محاولة قوية لفتح القسطنطينة عاصمة الدولة البيزنطية في عهد سليمان بن عبد الملك سنة 99هــ، وذلك كله بفضل همة عبد الملك وعزيمته.

وضرب عبد الملك بن مروان الدراهم والدنانير ومنع التعامل بالدراهم والدنانير الرومانية، فحقق استقلال الدولة اقتصاديًّا، كما حقق استقلالها في السياسة والحرب.

كانعبد  الملك بن مروان مثالًا للقائد المسلم الحازم الذي يعرف كيف يكسب المواقف عندما يتعلق الأمر بالسياسة ويعرف كيف ينتصر عندما يخوض غمار الحرب، وإن حياته مليئة بالتجارب والدروس التي يفيد منها كل من ولي شيئًا من أمر المسلمين، فإن من أهم الأمور التي تؤهلنا إلى فقه النهوض هو الدراسة العميقة المتأنية في التراث التاريخي الضخم بأحداثه ورجاله.

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد