ينفذ السودانيون ابتداءً من يوم 27 نوفمبر ولمدة ثلاثة أيام عصيانا مدنيا في كل أنحاء الدولة دعى إليه نشطاء شباب عبر الفيسبوك والتويتر.

الدعوات للعصيان المدني جاءت احتجاجا على رفع الدولة الدعم عن الدواء ما أدى إلى تضاعف أسعاره بصورة غير مسبوقة، والذي بدوره جاء بعد مدة قليلة من رفع الدعم عن المحروقات وبعض الأغذية، والذي تقبله الشعب على مضض وقابله ببعض التذمر الذي انقلب إلى احتجاجات ومظاهرات متفرقة بعد إلحاقه برفع الدعم عن الدواء.

الاحتجاجات هذه المرة تبدو أكثر حدة وأعلى صوتا، ويتوقع أن تستمر في تصاعد لتزايد الغلاء الذي شمل كل شيء ولم يسلم منه أحد من الشعب السوداني، الذي يرزح غالبيته تحت خط الفقر.

رفع الدعم الحكومي عن الوقود والغذاء والدواء هو نتيجة طبيعية لتخبط حكومي مريع في إدارة الدولة، جاء بصورة رئيسية باعتباره نتيجة لعدم تحسب الحكومة لفقدان الجنوب، وبالتالي فقدان إيرادات النفط التي كانت تمثل عصب الاقتصاد السوداني؛ الحكومة أهملت الزراعة المورد الأكثر ملائمة لطبيعة السودان، ولم تنوع مصادر تمويل الدولة والاقتصاد، واعتمدت بشكل كلي على النفط الذي أنتج في العام 1999.

النفط رفع من مستوى الاقتصاد السوداني، وعاش السودانيون في رفاهية ورخاء منذ استخراجه في عام 1999 وحتى العام2010, وبعدها بدأت تظهر علات في اقتصاده بلغت ذروتها بانفصال الجنوب، الذي أخذ معه ثلثي النفط والذي يمثل 80% من إيرادات الموازنة العامة.

بعد ذهاب النفط وعدم تحسب الحكومة لذلك بتشجيع الإنتاج ومصادر الاقتصاد الأخرى كالزراعة والثروة الحيوانية، عانى السودان من تدهور متواصل في اقتصاده بحيث لا يأتي يوم إلا والذي بعده أكثر سوءا منه. فوصل سعر الجنيه السوداني أمام الدولار الأمريكي من 2 جنيه في العام 2008 إلى 16 جنيه هذا العام، لعدم توافر الإنتاج الكافي الذي يصدر للخارج، فيمد الدولة بالعملات الأجنبية، ورفعت الحكومة الدعم تدريجيا عن كل ما كانت تدعمه في السابق، نتيجةً طبيعيةً كما ذكرنا لإفلاس الدولة.

الآن وصل الاقتصاد السوداني إلى أسوء حالاته، بل وقد تكون هذه ذروة التدهور التي قد يعقبها انهيار تام وتضخم مريع يرفع من الأسعار بصورة تتابعية أسية لا تتوقف ويجعل من الجنيه السوداني ورقا لا قيمة له.

نظام البشير أتى للقصر الرئاسي عبر انقلاب أبيض في العام 1989 ويحكم حتى الآن لما يناهز الثلاثة عقود، قنن عبرها وجوده عبر عدة انتخابات مشكوك في نتائجها وطوال هذه الفترة فشل في إنعاش الاقتصاد السوداني المتهالك، وأخفق في تأسيس أركان يقوم عليها اقتصاد مستقر ومتنام عبر تشجيع الإنتاج بدلا عن الاستهلاك والاستيراد من الخارج، خاصة والسودان من الدول التي لا يضاهيها إلا القليل من دول العالم قاطبة في ما يخص توافر الموارد الطبيعية من أراضي زراعية وثروات حيوانية ومعادن وحتى نفط في مناطق لم يستكشف فيها بعد.

هذا الفشل الواضح في إدارة الدولة، الذي استمر لمدة ثلاثين عاما من حكم البشير صاحبه فساد لم يشهد مثله في أي عهد طوال تاريخ السودان، حيث أصبحت أخبار تورط المؤسسات الحكومية في اختلاسات ومخالفات وجرائم تعد على المال العام من الأخبار التي يطالعها المواطن يوميا في الصحف السيارة.

تكاد لا تخلو جهة حكومية من فساد معلن أو متستر عليه؛ حيث تورطت كل من وزارة الأوقاف وهيئة الحج والعمرة ومكتب والي العاصمة ومدير سابق لجهاز الأمن وإدارات كثيرة صغيرة وكبيرة، في قضايا فساد كشفت وما خفي كان أعظم وكان آخر هذه القضايا تلاعب مدراء وموظفي بنوك في منح دولارات مخصصة لاستيراد الدواء لجهات وأشخاص لا علاقة لهم بسوق الدواء استفادوا منه لمصالحهم الخاصة.

حكومة البشير اعتادت طوال مدة حكمها التي استمرت لما يقارب ثلاثة عقود أن يتذمر الشعب، ردا على قرارات ضاغطة ومجحفة بحق المواطن تذمرا سرعان ما ينقضي وينشغل بعدها الشعب بأمر المعاش والحياة، ولكن الجديد في هذه الاحتجاجات أنها تتخذ شكلا جديدا غير معهود ويبدو أن الحكومة ستواجه ولأول مرة احتجاجات جدية تتخذ نمطا تصاعديا حادا ونزعة تمددية واضحة.

العصيان المدني المزمع تنفيذه من قبل قطاعات واسعة من الشعب إذا تم بنجاح فإننا يمكن أن نقول أن السودان مقبل على مرحلة جديدة كليا في علاقة الشعب بالحكومة.

قد يؤدي هذا العصيان في حال نجاحه إلى إرتباك حكومي كبير، وإذا لم يعقبه إصلاح حقيقي وتراجع عن بعض القرارات وخصوصا إلغاء دعم الدواء الذي كان هو شرارة الاحتجاجات، فإن ذلك النجاح إن تم قد يفتح شهية الشعب السوداني المكبوت ويؤدي إلى مزيد من تنفيذ صور الاحتجاج التي قد تؤدي إلى ما يشبه ثورات الربيع العربي وهو ما يجعل عواقب هذا التحرك مجهولة ومفتوحة على كل الاحتمالات.

فزيادة الضغط على الحكومة سيؤدي إلى دفعها إلى واحد من ثلاثة تصرفات رئيسية؛ إما قمع المحتجين والتنكيل بهم أو الإذعان لهم أو التهاوي أمامهم.

ولكل تصرف محتمل من الثلاثة عواقبه المتوقعة، وهو ما سنناقشه في المقال القادم.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

السودان
تحميل المزيد