الأزمة المالية والاقتصادية التي يُعاني منها لبنان منذ عام ونصف تقريبًا لم تُغيّر كثيرًا في العقلية التي أدارت هذا البلد في آخر ثلاثة عقود. تتعامل المنظومة الحاكمة في لبنان بلا مبالاة فظيعة وهي لا تزال تُراهن أن الأمور لن تصل إلى الهاوية أو الجحيم. لكن وسط هذه اللامبالاة هناك العديد من الدراسات والتقييمات التي صدرت عن خبراء لشرح ماهية الأزمة وأسبابها.

وثمّة جانب أساسي في الأزمة اللبنانية لم يتطرّق كُثر إليه ربما لأن النتيجة محسومة برأيهم والرأي السائد حوله هو رأي الأغلبية. وهو عن هوية الاقتصاد اللبناني وشكله وفلسفته وأيديولوجيته. فالسؤال الجوهري هو: ما هي هوية الاقتصاد اللبناني؟ هل هو اقتصاد حرّ أو مُوجّه؟

قد يعتبر البعض أن مناقشة هذا الجانب هو مجرد ترف فكري والحقيقة مُعاكسة كليًّا لذلك. فكُثر قد حسموا رأيهم بأن الاقتصاد اللبناني هو اقتصاد السوق الحرّ، وكثر من معتنقي هذا الفكر يؤيدون هذا الرأي لكن الأزمة التي يعيشها اللبنانيون يجعلنا نُعيد التفكير.

الجواب السريع على هذا السؤال هو أن الاقتصاد اللبناني ليس بالاقتصاد الحر. هذا لا يعني أنّه اشتراكي موجّه، لكنه خليط من الهويتين، خليط لا يشبه الاقتصاديات الإسكندفانية، بل خليط من العيوب والفساد من دون إستراتيجية وتنسيق وتدعيم وتكييف بين تناقضين.

الأغلبية لا تُقرّ بهذه الحقيقة، إمّا جهلًا أو مكابرةً لمسايرة البرستيج اللبناني الهادف دائمًا لتمييز الفكرة اللبنانية عن كل ما يُحيط بها.

أما إذا شخّصنا الاقتصاد اللبناني فنرى أنّه أقرب للاقتصاد الموجّه من قبل منظومة تُدعى السلطة ولصالحها. وموازنات الحكومة وقطاعات الاقتصاد تشهد على ذلك.

فأهم قطاع اقتصادي في لبنان هو القطاع المصرفي. يكاد البعض يختصر اقتصاد لبنان باقتصاد المصارف. وفي دراسة قامت بها الدولية للمعلومات عام 2019، أشارت إلى وجود حوالي ال 62 مصرف في لبنان، وهو معدل مرتفع بالنسبة للسكان مقارنة بدول العالم. في بريطانيا مثلًا يوجد 10 مصارف وفي سويسرا 13 مصرفًا.

هذه المصارف ساهمت في خلق اقتصاد لبناني ذات هوية ضائعة لا محسومة كما يحبّذ البعض أن يصفها. فوظيفتها كانت متوزّعة بين تقديم القروض للدولة لتمويل مشاريعها وتسيير المرفق العام وبين الخدمات المُقدّمة للقطاع الخاص.

في الأولى كانت المصارف تلعب دورًا في تسهيل عمليات السلطة المالية من دون أخذ ضمانات وإجراء محاسبة حول مصير الأموال وتقييم حجم المشاريع ومقارنتها بحجم القروض. وهذه الوظيفة بالتحديد كانت عاملًا أساسيًا في هيمنة القطاع العام وتحكمه بمفاصل مهمة في الدولة.

وفي الثانية ساهمت هذه المصارف في تقديم عروض مغرية للمواطنين عبر رفع معدلات الفائدة والتي أدّت إلى إيداع كثر أموالهم في البنوك دون استثمارها في مشاريع هامة. وهذا يفسّر الفشل الذريع في قطاعي الزراعة والصناعة في لبنان، كذلك تراجع معدلات التنافسية لقطاع السياحة والخدمات لصالح دول أخرى منافسة في المنطقة. هذه النقطة بالتحديد لا أحد يلتفت إليها وهي أن معدلات الفائدة أفشلت قطاعي الزراعة والصناعة وأدّت إلى تراجع الاستثمارت في قطاعات الخدمات والإستشفاء والتعليم. ما فعلته المصارف، هو تكريس حكم السلطة، خلق اقتصاد لهذه السلطة وتمويله، بخلطة بشعة تشوبها الموبقات بين الحرّ والمُوجّه. فلا القطاع العام كان يعمل حسب الأصول ولا الحرية أُتيحت كاملةً للقطاع الخاص بأن يأخذ مداه. وما جرى فعليًا هو فعل تشويه لأدوار القطاعين العام والخاص بما يخدم مصالح السلطة ودون وضع أي أطر قانونية وتشريعات لتنظيم نطاق كل منهما.

اقتصاد السلطة هذا أدّى إلى تضخم رهيب في القطاع العام، يبلغ حوالي ال300 ألف موظف، ونسبة لا بأس بهم منهم لا يعملون ولايقدمون أي إنتاج للدورة الاقتصادية في البلد ولا يُساهمون فيها. وهذا الاقتصاد كان وسيلة بيد السلطة للسيطرة على الناس والمسك بأرزاقهم وحياتهم، فمن لا يحظى بفرصة التوظيف بالقطاع العام كان عليه مجبرًا أن يساير السلطة لكي ينجح مشروعه في القطاع الخاص أو حتى العكس، وهذا ما يفسّر دخول عديد من رجال الأعمال لعالم السياسة في لبنان.

لكن يجب الاعتراف! ما حقّقته هذه السلطة هو نجاح! نجاح كلّي في السيطرة على مجريات الحياة الاقتصادية وربطها بأشخاص محدّدين لهم القدرة على الاستفادة من خيرات الدولة وتسخيرها في مشاريعهم الخاصة داخل، وخارج، لبنان.

وفي ظل هذه السيطرة كان الفشل سيد الموقف في الإدارة والنوعية والخدمة. اقتصاد السلطة هذا إستطاع تحويل كنز لبنان، أي قطاع الخدمات والاستشفاء والمصارف والتعليم إلى نكبة حقيقية عبر أدوات المحاصصة والتعطيل والطائفية. وفي كل قطاع هيمنوا عليه فشلوا في تظهير أي إنجاز.

اليوم خارطة الاقتصاد اللبناني عبارة عن شبكة مصالح تُهيمن على كيانات وقطاعات أساسية في الاقتصاد عبر تحالف شخصيات وعائلات وشركات يدور حول فلكها شبهات فساد.

ولو راجعنا الاقتصاد اللبناني اليوم لوجدنا أن أهم القطاعات فيه والتي تُشكِّل ماهية أي اقتصاد، مُدار من قبل السلطة. قطاعات كالكهرباء والماء والإتصالات والمرفأ والمطار، كلها تتحكم بها ما يُسمّى (الدولة) وهي مرادف للسلطة في لبنان.

تأتي المصارف مع المصرف المركزي لتمويل هذا الاقتصاد، ونسبة لا بأس بها من سياسيي لبنان يملكون حصص في هذه المصارف. فالسياسات والقوانين لن تكون إلاّ في صالح هؤلاء، عبر علاقة نفعية دائرية، تُلغي أي هوية حقيقية عقائدية جديّة للاقتصاد. فكيف يُمكن أن يكون الاقتصاد حرًّا والقطاعات الأساسية فيه مُدارة من قبل الدولة؟

هذا لا يعني أن الاقتصاد اللبناني هو اقتصاد إشتراكي مُوجّه بالضرورة. هو باختصار اقتصاد سلطة يعمل لصالح مجموعة من الأشخاص والتنظيمات بطرق وآليات مختلفة، دون الأخذ بعين الاعتبار أي عقيدة اقتصادية خالصة. وهذا الأسلوب كرّس اقتصادهم ،اقتصاد مصالحهم، بأسلوب أقرب للاقتصاد المُوجه.

فمفهوم الدولة ليس تفصيلًا في لبنان. الدولة على حسب مزاج هذه السلطة، لا الدولة كتعبير علمي دقيق عن ماهية المصطلح. وهذه الدولة مُتحكّمة بكل شيء لصالح هذه السلطة ولتقوية اقتصادها.

وأمّا أبرز أدوات اقتصاد السلطة هي سياسة تثبيت سعر الصرف طوال 30 عامًا تقريبًا. وهي بالأساس لا تمت بصلة للاقتصاد الحر. فأساسيات الاقتصاد الحر تلحظ تحرير سعر الصرف وتركه يتحدّد حسب آليات العرض والطلب لا تثبيته حسب ما يُحدّده صندوق خزينة اقتصاد السلطة هذه، أي المصرف المركزي.

وتحرير سعر الصرف لا يعني الفوضى الحاصلة حاليًا في سعر الصرف. فلو أن سعر الصرف كان مُحرّرًا من الأساس وفقًا لآليات علمية يلحظها العرض والطلب لما كانت الليرة لتتحمّل هذا الضغط ولكان إرتفاع الصرف أو انخفاضه مرّ بسلاسة عبر السنين، لا من خلال أشهر وأيام كما حصل في هذا العام. وبالتالي، ما كان ليحصل ما حصل من ارتفاع معدلات التضخم والبطالة والفقر وتآكل القدرة المعيشية للمواطنين. كما أن تحرير سعر الصرف كان سيؤدي إلى تراجع الاعتماد على الاستيراد والتوجه نحو الإنتاج المحلي والتخفيف من دولرة الاقتصاد.

وترافق مع تثبيت سعر الصرف، سياسات الدعم لبعض المنتجات. وهي أيضًا سياسات تنتمي للاقتصاد الموجّه لا الحرّ. فعندما تدعم الدولة بعض المنتجات، هي في الحقيقة تتدخل في تسعيرتها، أي تدعس على آلية العرض والطلب وتحدّد سعرًا تراه هي مناسبًا. هنا تتعطّل عملية العرض والطلب لصالح تدخّل الدولة. أضف إلى ذلك لا عدالة هذه السياسة، إذ يستفيد منها المحتاج وغير المحتاج وتكرّس التفاوت الاجتماعي وتخلق اضطرابات اجتماعية.

هذه الملامح للاقتصاد اللبناني تجعله اقتصاد فريد من نوعه، جعلت فيه السلطة القطاع الخاص يعمل لصالحها بعد أن هيمنت مسبقًا على الدولة، عبر الميليشيات في الحرب والانتخابات في السلم.

لقد نجحت السلطة في خلق هذا الاقتصاد. أغرت مواطنيها بمعدلات الفائدة المرتفعة والوظائف مقابل أصواتهم وأخذت أضعاف المكاسب، قبل أن يحلّ الانهيار فيُطيح بكل شيء.

اقتصاد سُلطة يبني مدارس ومستشفيات للعامّة دون المستوى فيما أبناء السُلطة يتعلّمون ويُعالجون في الخارج أو في مراكز في لبنان محسوبة على الخارج. واقتصاد يخلق الوظائف الوهمية لإرضاء أتباعه ويعجز عن خلق فرص عمل حقيقية تساهم في الدورة الاقتصادية. وهذه الوصفة ما هي إلا دليل على العجز والفشل في الإدارة والابتكار.

نجحت السلطة في الهيمنة والسيطرة على مقومات الاقتصاد، لكنها فشلت في الإدارة والاستمرارية وهي الآن تراوغ وتحاول التملّص من مسؤولياتها.

اقتصادها هذا تعرّض للعديد من الضربات لأنّه اقتصاد فريد في بشاعته ورداءته. كان اقتصاد فلسفته الاستدانة من الخارج عبر مؤتمرات لتمويل عمليات السلطة كل خمس أو 10 سنوات. لكن في آخر مرة في مؤتمر سيدر، فرض الخارج شروط تعجيزية وهي الإصلاح. كلمة لا يُحبذها من في السلطة في لبنان ويعتبرونها تهديدًا. وهي بالفعل تهديد، فالإصلاح يعني مكافحتهم وبالطبع لن يُكافحوا أنفسهم ويتخلّوا عن مكتسباتهم. راهنت السلطة أن الخارج سينقذهم كما يحصل في كل مرة، لكنهم خابوا في رهانهم هذه المرة، فانهار البلد.

كانت 17 أكتوبر (تشرين الأوّل) 2019 اللحظة التاريخية الأصدق تعبيرًا عن انهيار اقتصاد السلطة. تلك اللحظة التي سبقتها قرارات للسلطة بفرض ضرائب على خدمة «الواتس آب» كتعبير عن عجز السلطة بعد تخلّي الخارج عنها.

لذلك الحلّ اليوم يبدأ بتشخيص حقيقي لواقع الاقتصاد اللبناني دون الوقوع بأفخاخ الترندات والشعبويات والتقييمات الأيديولوجية. ليُصار لاحقًا إلى خلق هوية اقتصادية واضحة وجريئة وشفّافة ضمن أُطر قانونية تعمل لتدعيم فكرة الدولة والاقتصاد الحقيقي. وفي العالم نماذج كثيرة لذلك، كالنموذج الإسكندفاني. لكن كل هذا مرهون بوجود أشخاص مؤهلين للحكم والإدارة. وإلا فإن أنجح وأمتن نظرية اقتصادية في التاريخ ستفشل في بناء اقتصاد حقيقي في البلد في حال بقيت العقلية ذاتها.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد