إن هناك كثيرا من الأقوال الموروثة عن عصور سابقة، بعضها قد يكون مثالًا يحتذى به وبعضها لا ينبغي أن يكون قدوة نقتدي بها، ولكن للأسف نحن نأخذ الغث – الرخيص – ونترك الثمين،
ومن هذه المقولات “أنا عبد المأمور” تلك العبارة التي جعلتنا عبيدًا في كثير من المناحي والمجالات، فهذا يتجسس على الآخرين تحت دعوى: “أنا عبد المأمور” وهذا ينفذ أوامر يعلم بعدم صحتها، تحت دعوى: “أنا عبد المأمور”، وكم من أشياء كثيرة دمرت حياتنا تحت دعوى: “أنا عبد المأمور” فأصبحت كالسوط الذي نجلد به أنفسنا بأيدينا، فصرنا نحن الجلادين والمجلودين، فما أصل تلك المقولة: “أنا عبد المأمور”؟
كان “محمد بك الدفتردار” أحد السواعد القوية التي اعتمد عليها “محمد علي” في تدعيم حكمه وتشديد قبضته على الشعب المصري.
وكان “محمد الدفتردار” وحشًا كاسرًا، يحمل بين جنبيه قلبًا صخريًا لا تعرف الرحمة أو الشفقة سبيلًا إليه، وكان عاشقًا للدماء، يطرب لمشهد الرؤوس وهي تطير في الهواء، ولا يتورع عن ارتكاب أبشع المذابح لأوهى الأسباب، فكان مجرد ذكر اسمه يثير الفزع والرعب في نفوس سامعيه.
وشخص كهذا لا يمكن أن يتركه “محمد علي” دون التقرب منه وكسبه إلى صفه، فقربه منه وجعله من خاصته، ولكي يضمن ولاءه إلى الأبد؛ زوجه ابنته فأصبح واحدًا من أعضاء الأسرة المالكة.
وفي إحدى الأيام كان “الدفتردار” يطوف على بعض القرى، فتقدم منه فلاح بائس عارضًا شكواه،
فقال: “لقد تأخرت عن سداد الضريبة المستحقة عليّ وقدرها ستون قرشًا، ولكن ناظر الأرض رفض ولم يقبل إلا الدفع، فاستولى على بقرتي الوحيدة وأمر جزار القرية بذبحها ثم قسمها ستين جزءًا وأمر بتوزيعها على الفلاحين بواقع قرش واحد للجزء”.
“وأعطى الجزار رأس البقرة لقاء عمله، وبعد أن جمع المبلغ مضى وتركني دون أن أتذوق حتى لو قطعة واحدة من لحم البقرة التي كنت أعتمد عليها في زراعتي وكانت تساوي ضعف المبلغ الذي جمعه”.
وأحس “الدفتردار” بحرج الموقف، رغم ما اشتهر به من جبروت وبطش! فلما فرغ الفلاح من قصته، مضى إلى القرية، وأطلق المنادي يطلب من أهلها التجمع في الجرن، والتف الفلاحون في شبه حلقة.
بينما بعث “الدفتردار” يستدعي الناظر والجزار الذي ذبح البقرة، ثم أمر بتكبيل الناظر بالحبال وإلقائه في وسط الحلقة، ثم التفت إلى الجزار قائلًا: “كيف سمح لك ضميرك بذبح بقرة هذا الفلاح المسكين وهي كل ما يملك من حطام الدنيا؟!”.
فقال الجزار: “إني يا مولاي عبد مأمور ولم أفعل سوى ما أمرني به الناظر”.
فقال الدفتردار له: “لو أمرتك بأن تذبح الناظر مثلما ذبحت البقرة فهل تفعل؟”، فقال الجزار: “لقد قلت يا مولاي إني عبد مأمور، أطيع الأوامر التي تصدر لي من سادتي”، عندئذ انتصب الدفتردار واقفًا وصرخ في وجه الجزار: “إذن فإني آمرك أن تذبح هذا الوغد”.
وهنا علم الجزار بمصيره المحتوم إذا خالف أوامر سيده، فكيف له أن يطيع أوامر الناظر ولا ينفذ أوامر سيده، فخف الجزار مسرعًا وأخذ السكين من جيبه، وانقض على رقبة الناظر فحزها حتى فصل رأسه عن جسده، وساد الوجوم أهل القرية وجمدت الدماء في عروقهم وظلوا واقفين مذهولين أمام هذا المشهد الرهيب.
وفرغ الجزار من مهمته، ونهض منتظرًا باقي الأوامر، فقال له الدفتردار: “اقطع جثته ستين إربًا – قطعة -ما عدا الرأس، وفرغ الجزار من تقطيع الجثة ستين إربًا. وهنا التفت الدفتردار نحو أهالي القرية صارخًا: “على كل منكم أن يشتري قطعة ويدفع قرشين”.
وصدع الأهالي بالأمر أخذ كل منهم قطعة من لحم الناظر ووضع قرشين، فلما تجمع مبلغ مائة وعشرين قرشًا تناولها الدفتردار، ودفع بها إلى الفلاح المنكوب ليشتري لنفسه بقرة جديدة، ثم التفت إلى الجزار، وقال: “كما أنك أخذت رأس البقرة جزاءً لك على تعبك، خذ بالمثل رأس الناظر جزاءً لك على تعبك في ذبحه وتقطعيه”.
وانطلقت منه ضحكات فظيعة كأنها زلزال مدمر، ثم نهض وغادر القرية ومن خلفه جنوده بينما أهل القرية ذاهلون وكأنهم يشهدون كابوسًا كريهًا.
كيف يعاقب إنسان بالقتل بهذه الطريقة البشعة! فتصبح رقبة بقرة تساوي حياة إنسان، أي أنواع من الاستبداد مارسه هذا الطاغية على مرأى ومسمع أهل القرية وصاحب هذه البقرة، إنه استبداد جنون العظمة الذي بلغ مداه حينما أمرهم “الدفتردار” بشراء قطعة من لحم الناظر بقرشين، فقبلوا وهم مجبرين.
وقد ظن هذا الوحش البشري أنه أقام عدلًا، ومحا ظلمًا! وما درى أن العدل الذي يتحقق عن طريق الإرهاب والعنف هو عين الظلم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست