لم يبالغ (برتراند راسل)، وإنما رصد قلب الحقيقة حين قال: “إن مشكلة العالم: أن الأغبياء والمتعصبين دائمًا واثقون من أنفسهم، فى حين أن العقلاء تملأهم الشكوك فى أنفسهم”.
أهم وأول مرحلة في إصلاح النفوس هو الاعتراف بالمشكلة، إدراك الإنسان لحقيقته؛ هل يدرك الغبي غباءه؟ هل يقيّم العاصي نفسه؟ كارثة أن لا نعرف قدرنا الحقيقي، فلا أمل في التغيير، يظل كل منا راضٍ عن نفسه، ثابت في موضعه، نحيا ونموت على هذه الأوضاع المتجمدة، اللهم إلا زيادة الصالح صلاحًا، والفاجر فجرًا، والمتكبر تكبرًا!
ودفاعنا عن آرائنا هو في الحقيقة دفاع عن أنفسنا، عدم الاعتراف بأننا خطأ! وبهذا الغرور يتقدم كل رويبضة للنصيحة والفتوى والسلطة، ويتراجع الأكفاء! وتفقد كل العلوم الدينية والتربوية والإصلاحية والفكرية قيمتها؛ لأنها توجه لغير أهلها، فالعاصي لا يحضر ندوة أو خطبة لأنه راضٍ عن خُلُقه، والإرهابي/ المتعصب/ الغبي/ الجاهل لا يقرأ لأنه واثق برأيه، أو يقرأ ما يقنعه ليزداد يقينًا! وتزداد العلاقات الإنسانية تعقدًا بين العجرفة والكبر!
أنــا.. أحسن من غيري
دون وعي منا نفتش عن أرذل الناس، نقارن أنفسنا بهم، فنُعجب بحالنا، وتطمئن قلوبنا، وترتاح ضمائرنا أننا – الحمد لله- أفضل من غيرنا!
يجسد عيسى (عليه السلام) هذه الحالة فيقول: “أما الفريسي فوقف يصلي في نفسه هكذا: اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة، ولا مثل هذا العشار (جامع الضرائب) أصوم مرتين في الأسبوع، وأعشر كل ما أقتنيه. وأما العشار فوقف من بعيد، لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قرع على صدره قائلًا: اللهم ارحمني، أنا الخاطئ. أقول لكم: إن هذا نزل إلى بيته مبررًا دون ذاك، لأن كل من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع”(1).
وأخوه موسى (عليه السلام) يفتخر أمامه رجل فقال: أنا فلان بن فلان حتى عدّ تسعة، فأوحى الله إلى موسى: أخبره بأن التسعة في النار وأنت عاشرهم.(2)
وأخوهما محمد (صلى الله عليه وسلم) حين جلس مع أصحابه ذكروا رجلًا وأكثروا الثناء عليه، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم الرجل ووجهه يقطر ماء من أثر الوضوء وبين عينيه أثر السجود، فقالوا: يا رسول الله هذا هو الرجل الذي وصفناه. فقال: أرى على وجهه سفعة من الشيطان. فجاء الرجل وسلم وجلس مع القوم، فقال النبي: ناشدتك الله، هل حدثتك نفسك حين أشرفت على القوم أنه ليس فيهم خير منك؟ فقال الرجل: اللهم نعم. فقال النبي في دعائه: اللهم إني استغفرك لما علمت ولما لم أعلم. فقيل له: أتخاف يا رسول الله؟ فقال: وما يؤمنني والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.(3)
أنــا.. واثق في نفسي
يقول د. ريستاك: “إن عقلك ليس آلة منطقية، فعندما يعمل عقلك، تحدث الانفعالات والمشاعر تجاه شيء ما أو شخص ما قبل أن تشرع في أي محاولة للتفكير الواعي”(4)، وتقول إليف شافاق: “أكثر ما تؤمن به أو ما تكرهه قد يكون ناتج عن سوء فهم بسيط، خطأ لغوي، ترجمة خطأ للآخر”(5). ويقول د. جون غراي: “إن 90% من غضبنا وانفعالاتنا بسبب مواقف شخصية قديمة، و10% بسبب المسبِبات المباشرة للغضب”(6).
إذن فأغلب آرائنا ومواقفنا ليست مبنية على منطق وتفكير علمي بحت كما تظن، وإنما في الحقيقة هي نتاج تربية/ بيئة/ هوى/ تجارب شخصية. والأجدر البعد عن اليقين والتأكيد، والاقتراب من الأسئلة والشك، واعتبار آرائنا رؤى ووجهات نظر واعتقادات شخصية لحين البحث والتحري.
بصفة عامة مصطلح الثقة بالنفس محض جهل بالحق، وغرور بالنفس، وتضييع للثقة. فأي نفس هذه التي تثق بها؟ الجاهلة، العاصية، الضعيفة، العاجزة، الناقصة، المذلولة بالحاجة والشهوة؟!
(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)، (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)، (َيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)، (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)، (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ).. هذه هي النفس التي تثق فيها وترجع إليها وتعظمها!
إن المرء يثق بمرجع ثابت يميز بين الحق والباطل، لكن أن تثق بنفسك باعتبارها مرجعًا للصواب والخطأ وهي تتأرجح بين بيئتك، وتربيتك، وشهواتك، وتجاربك، ولا نعرف لأي جهة تسير؟! أي توهان وجنون أكثر من ذلك؟!
صحيح إحساس الثقة بالنفس مريح وقتيًّا، كما أن الجهل مريح، والمخدرات مريحة.. شتان بين الراحة المسكرة، والغيبوبة المضلة، وبين الحقيقة المهذِبة المصلحة. (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)
أنــا.. عاجز وجاهل وعاصي
وعلى العكس تقف الفئة الناجية، فيصل هابيل لرضى ربه بإنكار نفسه، (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ). ومن بعده يوسف يجعل كل مناه أن يُلحق بالصحالين، (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)، وسيد بني آدم لا يرى نفسه سوى (ابن امرأة كانت تأكل القديد)، وقد نهى عن الغلو في مدحه فقال: “لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله”. وصاحبه أبو بكر يرى أن لو إحدى قدميه في الجنة والأخرى خارجها ما أمن مكر ربه. وعمر القائل عن نفسه: “لو نادى منادٍ من السماء أن كل أهل الأرض في الجنة إلا رجلًا لظننت أنه عمر”. وحين أخبر النبي حذيفة بن اليمان أسماء المنافقين سأله الفاروق العادل: “أنشدك الله، أمنهم أنا؟”(7) وتروي زوجة عمر بن عبد العزيز أن زوجها كان ينتفض فزعًا على فراشه حتى تقول: “سيصبح الناس دون أميرهم”.
وعن أحد السادة الصوفية أنه قال: “لما نظرت إلى أهل عرفة ظننت أنه قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم”(8)، وتابعي يقول: “إني لأعد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة”(9)، ويقول الجنيد: “الشكر ألا ترى نفسك أهلًا للنعمة”.(10) وآخر يدعو: “اللهم أجرني من النار، أومثلي يجترئ أن يسألك الجنة؟!”(11). وكان أحد شيوخ الصوفية لا يقبل تلميذًا إلا إذا خدم الناس سنة، ولا يستطيع ذلك إلا إذا وضع نفسه موضع الخادم وكل الناس له سادة، وبذلك يرى نفسه أصغر الناس. وحين اشتكى تلميذ أبي يزيد: صحبتكم ثلاثين سنة ولم أشعر بما تشعرون من القرب إلى الله؟ فقال أبو يزيد: البس أسوأ ملابسك، واذهب للسوق، وخذ حلوى معك، وأعطها للصغار كي يضربوك أمام الناس، حتى تتجرد من تعظيم نفسك.(12)
هؤلاء لا نقول لا يعرفون قدرهم، وإنما هم وحدهم الذي يعرفون قدرهم، لا نقول إنهم يتواضعون بمعنى النزول بمستواهم، بل يعرفون أن هذا هو مستواهم الطبيعي. إن من الإسفاف التعامل مع أقوالهم أنها مجرد مبالغات، هم في الحقيقة لا يفتشون عمن أقل منهم ليتباهوا بأنفسهم ويركنوا على أعمالهم، وإنما لا يعاملون إلا الله، فكلما رفعوا رؤوسهم ليناجوا مولاهم، استصغروا أنفسهم، وكلما تتبعوا ما هو منه نازل، خجلوا مما هو منهم إليه صاعد، كلما فتشوا عن مواطن النقص والجهل والعجز والعصيان لديهم، أذهلهم حقيقة أنفسهم، فأنكروا أي وزن ورفعة، هؤلاء لا يعرفون كيف نغضب لأنفسنا، ونحفظ ألقابنا، ونكرّم مادحينا، وننفر من ناقدينا، هؤلاء هم العابدون.
أنــا.. عبـــــد
إذن لم يبالغ العارف بالله، مولانا ابن عطاء الله حين قال: “أصل كل معصية هو الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة: السخط عن النفس”، وأتبعه الغزالي بقوله: “أي طاعة مع الرضا عن النفس، وأي معصية مع السخط عن النفس؟!”، فلم أعمل وأتعلم وأجتهد إن كنت راضيًا عن نفسي؟! أما الساخط عن نفسه، فهو يشك، يسأل، يبحث، يجتهد حتى يرتقي، ويظل يجري وراء غاية متحركة، حتى الموت. ويكمن الحل في إدراك حقيقة التقييم، فلا يهم وضعك مقارنة بالأقل أو الأعلى، المهم وضعك بالنسبة للمطلوب/ المفروض. ولا يهم رأيك بنفسك ولا رأي من حولك، المهم كيف يراك الله؟ ليس في الوجود سوى إله وعبده، فهو اللقب الأذلي الخالد: عبـــد. هذا هو وضعي الطبيعي، تلك هي نظرتي لنفسي، فلا يريد الله من عباده سوى استشعارهم أنه إله جليل، وأنهم عباد بلا حول ولا قوة. لذا يقول ابن عطاء الله: “أخرج من أوصاف بشريتك كل وصف مناقض لعبوديتك”، فالعبد لا يُخدم، والعبد لا يغضب لنفسه، والعبد لا يتمسك بلقب ورتبة، والعبد لا يستصغر إلا نفسه.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست