مظاهرات السودان الجارية حاليًّا أظهرت صراعًا جانبيًا بين التظاهر والمنابر لا يقل احتدامًا عن الصراع الرئيسي بين المحتجين والنظام الحاكم، فكما كانت فيها الشرطة ذراعًا للقمع الجسدي، فإن الوعاظ كانوا ذراعًا للحكومة في القمع الفكري للمتظاهرين بتحريم مساعي احتجاجهم وتبشيع فعاليات تظاهرهم بدعاوى حرمة الخروج على الحاكم، وهذا مما أعطى الحكومة دافعًا إضافيا للقمع بشرعنته وتوفير السند والغطاء الديني له، سواء علم الوعاظ بذلك أم لم يعلموا.
في كل العالم المتحضر – حتى الكافر منه – تخرج المظاهرات الاحتجاجية السلمية، وليس هناك من قانون يحرمها أو يجرمها ولا تجد من أغلب نتائجها من نراه هنا من قتل وضرب وسحل للمحتجين عليه فإن مآلات المظاهرات ونتائجها تعتمد على أخلاق الحاكم وشرطته، لا على أصل فعل التظاهر والاحتجاج، وإلا لكانت مآلاتها في كل العالم سواء بسواء لا تختلف من بلد إلى بلد ومن حاكم إلى آخر.
فإن كان الحاكم إنسانيًّا ومتحضرًا (في حالة كفره) أو ورعًا ويخاف الله (في حالة أن يكون مسلمًا) فإن المحتجين لن يجدوا في انتظارهم هراوات تشبعهم ضربًا أو غازًا يدمع أعينهم أو رصاصًا حيًّا يسقط من بينهم المصابين والقتلى، وإنما سيجدون شرطة تحدد مسارهم وتحمي الممتلكات من المتفلتين منهم وتردع النازعين للشغب منهم بالماء الكثيف أو الغاز المدمع على أسوأ الفروض.
وهنا نقطة رئيسية فيما يخص قضية التعامل مع المظاهرات والاحتجاجات السلمية للشعوب، وهي أنك تجد بوضوح يصدقه الواقع المشاهد، أن أغلب الحكام المسلمين – في هذا المحك الأخلاقي – ذوو بأس وعنف وتهور، في نفس الحين الذي تجد فيه أن أغلب الحكام من غيرهم – في ذات المحك – ذوو لين ورحمة وترو.
السبب الذي يجعل الحاكم الكافر أكثر رأفة ورحمة في مواجهة من يتظاهرون ضده هو أنه في حالة التعدي يجد نفسه محاطًا بقوانين تجرمه وتحاكمه ورأي عام يناصحه ويخطئه، أما الحاكم المسلم فهو فوق القانون (إن وجد) والأخطر من ذلك أنه محمي برجال دين يحرمون حتى نصيحته ومناصحته ويقمعون الرأي العام إن جرمه أو خطأه فتجد الحاكم حينها جريء في سحق شعبه إن ثار أو تظاهر، وقد يظن نفسه على حق مهما زاد ظلمه وجبروته.
خلاصة الرأي أن العنف والضرب والسحل والقتل ليست نتيجة حتمية للاحتجاجات والمظاهرات حتى يجرم المتظاهرين و(يحرم) عليهم الاحتجاجات من بعض (رجال الدين) استنادًا على أن هذه هي مآلاتها (الحتمية) مع افتقارهم أساسًا للدليل النقلي في هذا الحكم. هذا فضلًا على أن هذه المآلات (السيئة) إن حدثت إنما هي من صنيع الحاكم إذا كان طاغيةً لا ورع له ولا رحمة، لا من صنيع المتظاهر الذي هو ضحية ذلك في واقع الأمر.
إذًا فالأولى بالنصيحة والتجريم هنا هو الفاعل وليس المفعول به، أي الحاكم وليس المتظاهرين، لأنه الطرف الذي تعتمد عليه النتيجة وهو الذي يملك القوة المؤذية وهو القادر على ضبطها وتهذيبها.
وهنا رسالة ضرورية لمن يرون عدم جواز انتقاد الحاكم على الوسائط والمنابر نقول لهم فيها: رأيناكم (تناضلون) بفتاوى (عدم الجواز) ضد أولئك الذين يتظاهرون في الشوارع والذين يناصحون على الوسائط والمنابر، ولكنّا لم نراكم أو نسمع عنكم (فعل الجائز) الذي (تعتنقونه) ألا وهو مناصحته وجهًا لوجه، فلم نراكم شكلتم وفدًا يواجه الحاكم بمخاذيه ومآخذ الناس عليه أو عرفنا منكم قول كلمة الحق حينما تلاقونه في محفل أو زواج أو عزاء وهو من المتاح لكم بسهولة، بل عرفنا منكم عكس ذلك حين يتيسر اللقاء. عزوفكم هذا عن نصح الحاكم بالطريقة التي ترونها جائزة إما أن يكون خشية وخوفًا من بطش الحاكم أو أنكم لا ترونه ظالمًا أو مقصرًا يجب في حقه النصح، وكلاهما مخز، الجبن أو الإقرار على الظلم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست