لكل سورة في القرآن، بل وأحيانا بعض الآيات، حالة عامة، وجو شعوري وجداني معين. وسورة محمد أو سورة القتال هي أشبه بجو سورة التوبة ولكن لجو سورة التوبة أعاصير وزعابيب ورعود على المنافقين أشد مما في سورة القتال فسورة القتال تخاطب سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام عن المنافقين وعن نصرة الله ولطفه بنبيه وفضحه المنافقين له. هي سورة التوبة الصغرى من حيث الحجم ومن حيث حدة الهجوم والعصف بالمنافقين ومن حيث تواجد أكثف لجو مداواة الجرح ومواساة الرسول والمؤمنين. هي سورة التوبة الصغرى من حيث سرد آيات وصفات المنافقين التي تناثرت في بعض سور القرآن بعد إجمالها في سورة التوبة ومن هذه السور سورة النساء و محمد والفتح والمنافقين.
لسورة القتال جو عميق تتقاذفه موجات من التضاد بين الذين آمنوا والذين كفروا وسرد صفاتهم. هو جو عتاب وتطييب جراح ثم هو وعيد وزجر لمن تولى وأدبر، ثم بها روح الاستعلاء بالإيمان… ثم تبلغ الذروة بين عتاب وتطبيب وزجر في آية عميقة موجهة لكلا الفريقين … ( أفلا يتدبرون القرآن… أم على قلوب أقفالها) والصورة مليئة بالتصوير الفني – وفقا لنظرية سيد قطب – فأنت ترى رأي العين قلوبا غلفا عليها أقفال صدئة تأبي أن تفتح لداعي الحق والخير. وهذه الآية تستدعي أخواتها .. من النساء ( أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) … ثم هي في موعظتها وقشعريرتها وزلزلتها للقلوب تستدعي أختها من الحديد ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر لله وما نزل من الحق)
ليس للسورة مقدمات – إن صح التعبير – فكما يقول صاحب الظلال عليه رحمة الله ( افتتاح يمثل الهجوم بلا مقدمة ولاتمهيد). فلا تبتدئ بحمد ولا تسبيح أو تمهيد بذكر القرآن العظيم أو مناقشة أي موضوع إيماني كتمهيد لأحداثها ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) وهي تشابه في ذلك أختها الكبرى الفاضحة .. سورة التوبة. افتتحت سورة القتال بجملة تقريرية خبرية لم تسبق بأي تمهيد ولو حتى بـ(إن) مثلا.. ثم تمر آيات القتال وتأتي المقابلة للافتتاحية ( والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم .. سيهديهم ويصلح بالهم .. ويدخلهم الجنة عرفها لهم). هذا سائر في سبيل الله فهداه الله إلى الحق وذاك يصد عن سبيل الله فتعسا له وأضل أعماله.
والسورة تفضح المنافقين في آيات متواليات تنقلنا لجو سورة التوبة … تتوالى هذه الصواعق على الذين في قلوبهم مرض بعد أن بين صفات الذين آمنوا وصفات الذين كفروا. تتوالى الآيات لتصل إلى آية حري بكل مؤمن أن يتوقف عندها ويعرض قلبه وعمله عليها …. هذه الآية تزلزل كيان كل مؤمن تقي .. تأتي هذه الآية مباشرة بعد آية تفضح الذين في قلوبهم مرض ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، الشيطان سول لهم وأملى لهم) ( ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر ) أغلب المفسرين كالقرطبي والطبري وابن كثير ومن تلا كالسعدي أن الأمر هو معاداة الإسلام … وليس في الآية ما يمنع كون الأمر مطلقا أي في أي أمر صادر من منبعكم … سنطيعكم في بعضه … ليخرج مدع ليقول أنا مسلم وأقدس مكة ولكن مصر عنده أقدس …. ثم يظهر مدعون يدعون الإسلام وقلوبهم معلقة بجاهليتم … يريدون إسلاماً بلا حدود، بلا حجاب، بلا جهاد، بلا تشريعات ، إسلاما راقصا للباليه، ويفخرون أنك لا تعرف المسلم من غيره في بلدك ، بل وصل ببعضهم أنهم يريدون إسلاما بلا صوم ، ولا حج ، ثم يقولون نحن مسلمون… حتى قرأت منذ مدة عن إمام أحد المساجد في لندن يجاهر بشذوذه ويدعي أن الإسلام لا يحرمه – أظن كان الخبر على CNN – كل هؤلاء من الذين في قلوبهم مرض … لن نعلن الكفر، ولسنا تحت لوائكم .. ولكن سنطيعكم في بعض الأمر… وحقيقة ذلك فعلا أنه عداوة للإسلام كما ذكر المفسرون وإن أبطن المريضة قلوبهم ذلك.
وهؤلاء الذين في قلوبهم مرض… أحسبوا أن لن يخرج الله أضغانهم وعداوتهم… أحسبوا أنهم باقون وسط أهل الإيمان ينفثون سمومهم … ولكن من تشرب الإيمان تأتيه أمارات الله ( ولونشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول) وكم من ذي قلب مريض عاش بيننا وكشفه لحن القول وسقطات اللسان..
وتتوالى الآيات بعد ذكر صفات الكفار وحربهم لله ورسوله؛ بأمر المؤمنين بطاعة الله ورسوله لئلا تحبط أعمالهم، لنصل لقمة الاستعلاء بالإيمان ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم)
وذُكر النهي عن الوهن ثلاث مرات في القرآن الكريم، في ثلاث سور، في ثلاث مواضع متقاربة السياق. والآيات الثلاث جميعهن تطييب للجرح وبث لروح العزة والستعلاء … والآيات الثلاث مفتتحة بـ(لا تهنوا) ببث روح العزة قبل التطييب.
آل عمران ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) وهي في سياقها مشابهة لسياق سورة القتال.
النساء ( ولاتهنوا في ابتغاء القوم .. إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون) وهي تالية مباشرة لأحكام صلاة الخوف …. فالإسلام يقر بالخوف كطبيعة بشرية ولا يقر بالوهن والذلة.
ثم هنا في سورة محمد ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون) وهي تختلف عن سابقتيها بابتداءها بحرف الفاء في ربط لها مع ما سبق من آيات. فبما سبق من تبيين لإحباط الله عمل الكفار وفضحه لللقلوب المريضة في لحن القول ووعيده لهم بالنار وإصلاح بال المؤمنين ووعده لهم بالجنة؛ أنتم الأعلون والله معكم فلا تهنوا وتدعوهم إلى السَّلم…
والوهن من الأمراض التي حذرنا منها ووضحها وفصلها لنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام ( وليقذفن في قلوبكم الوهن) في حديث تداعي الأمم ..( قلنا ما الوهن يارسول الله؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت)
والسَّلم – بفتح السين مع تشديدها وتسكين اللام – ذكر في القرآن مرتين اثنتين، هنا واحدة والمرة الثانية هي التي تلاها أنصار السلام وقرآها كلينتون في خطابه أثناء إحدى اتفاقيات السلام المزعوم …وهذا من طاعة بعضهم ممن في قلوبهم مرض للذين كرهوا ما أنزل الله. وتحريف الكلم عن مواضعه وإيمان ببعض الكتاب وكفر ببعض. وهاتان المرتان هما:
الأنعام ( وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله)
محمد ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون)
وكلا الموضعين ينافي السلام المزعوم وينسفه من أساسه … فقد جنحنا نحن للسلم بوهن وهوان.
ثم تأتي آيات تحث على الإنفاق لتختتم السورة بآية الاستبدال لمن وهن وبخل ومن لم يطع الله ورسوله ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)
وآيات الإذهاب ثم إنشاء خلق جديد وردت بعدة معان وبسياقات مختلفة فهناك إذهاب واستخلاف، وورد في مواضع عديدة كما في سورة الأنعام وهود؛ أو الإذهاب والإتيان كما في النساء وإبراهيم وفاطر. وهي في سياق الاستخلاف سياق مراقبة ومحاسبة، وفي سياق الإتيان سياق تهديد وقدرة على الإنشاء.
والسياق الثالث لم يرد إلا في سورتين لفظاهما واحد في الفاضحة والقتال ..أو التوأمين التوبة ومحمد. ووردت بلفظ الإتيان مفصلا في سورة المائدة ( فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يقاتلون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)
وهذا السياق هو الاستبدال وهو تهديد واضح واستغناء عن الخلق تام فأنتم الفقراء إلى الله وأنتم الأحوج لطاعته وليس حاشاه وسبحانه بعاجز أن يستبدلكم ويأت بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين لا يهنوا، فهم في معية الله. وفي مواضع لفظ الإتيان لم يبين سبحانه وتعالى طبيعة من سيأتي .. أما الاستبدال فسيٌذهب من تولى ليأتي بقوم مؤمنين.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست