كان شعار «الجمهور هيك بيريد» هو الحاكم بأمر أغلب وسائل الإعلام السورية المعارضة؛ خلال الثماني سنوات الماضية، سواء كانت الوسائل مقروءة مسموعة أو مرئية، والتي لربما تأثرت بثورة مواقع التواصل الاجتماعي على الشكل التقليدي لوسائل الإعلام، حينما طغت «السوشيال ميديا» على واقع المشهد الإعلامي بالتزامن مع موجة الحراك الشعبي التي شهدتها بعض دول المنطقة العربية.
بالرغم من أن الشعبوية الإعلامية أخذت في التوسع ما قبل موجة الحراك، متسقة في ذلك مع الشعبوية السياسية على الصعيد العالمي، لكن بروزها بات أمرًا سائدًا في وسائل الإعلام السورية خلال السنوات الماضية؛ مع نشوء هذه الوسائل التي اتخذت مقرات لها في عدة دول بحكم بعدها عن الوطن السوري بفعل أسباب سياسية وعسكرية.
ظاهرة الشعبوية في السياسة ليست ظاهرة جديدة، فقد عرف القرن قبل الماضي موجات لهذه الظاهرة بخصائص سياسية وخطابية مشتركة، تم تسميتها بتسميات مختلفة، نازية أو فاشية أو غير ذلك، بل إن هذه الظاهرة لها امتداد أعمق في التاريخ، إذا تم النظر إليها بكونها ليست أيديولوجية مغلقة، بقدر ما هي ظواهر أفرزتها الأزمات، وتتمتع بمواصفات سياسية وخطابية مشتركة. لعل أول حركة شعبوية معروفة في التاريخ هي فصيل غير رسمي في مجلس الشيوخ الروماني آمن أفراده بفكرة حشد الجماهير، ولجأوا إلى الاستفتاءات لتجاوز مجلس الشيوخ. كان من بينهم يوليوس قيصر، وقيصر أغسطس.
ثم كان للشعبوية ظهور آخر في أوروبا بعدها بقرون مع حركة الإصلاح الديني، والتي سمحت للرجل العادي بقراءة الإنجيل وتأويله، والتواصل مع الرب تواصلًا مباشرًا دون وسيط. استطاعت الشعبوية الإعلامية أن تئد الطرح النخبوي المتوازن في مهده لدى الإعلام السوري المعارض، بالرغم من محاولات خجولة لبعض الوسائل الخروج عن هذا السياق المفروض، إلا أن اعتبارات عديدة كانت مانعًا رئيسًا للمحافظة على النخبوية وانتشارها، أولى تلك الاعتبارات يتمثل في قناعة سائدة لدى بعض الإدارات غير الكفوءة مهنيًا وأكاديميًا، بأن النزول للشارع/الجمهور بدلًا عن الارتفاع به كان الأجدى للتأثير في شرائح الجمهور المتلقي، دون القدرة والرغبة على تحديد فئات مستهدفة، بل كانت الشعبوية أداة مؤثرة في مسح التمايزات بين العوامل المختلفة لكل فئة، وحصرها في أحيان ضمن خطاب تجييشي يخدم أجندة كل طرف داعم وممول لوسيلة ما على حساب الطرف السوري، والتقليل من تأثيرها على المدى الطويل، وهو ما أدى إلى تبني وسائل إعلامية «الفكرة الشعبوية».
الشعبويون اليمينيون في أوروبا أدخلوا «العَداء للأجانب» في «شعبويتهم»، فقالوا إن «أمتهم» تواجه تهديدًا من «الآخرين الخطرين»، مثل المهاجرين، أو الأقليات العرقية، أو الدينية، وكذلك كانت «بعض» وسائل الإعلام السورية التي اعتمدت على التخويف من الآخر، فضلًا عن تطييف خطابها وتجييش الفئات في أحيان وكأن ذلك من أجل إظهار «طائفية» وسوء الطرف الآخر، حتى بات خطاب الكراهية في الرسائل المصاغة كمن يدس السم في العسل. من أوصل الإعلام إلى ذلك المستوى ليس «خبث» صائغ الرسالة الإعلامية فالمستويات الإدارية للعديد من تلك الوسائل لم تستطع حيازة جانب التأهيل الأكاديمي المتخصص، فضلًا عن المحسوبيات والاستفادة من العلاقات مع موردي المال السياسي.
لا أعتقد أن هتلرًا جديدًا بُعِثَ في إدارات تلك المؤسسات الإعلامية السورية، فمؤلف نظرية (دس السم في العسل أو الرصاصة السحرية) التي أرسى قواعدها عالم الاجتماع الأمريكي، هارولد لاسويل، كان يعتقد بأن أفضل من استثمر توجهها هو الزعيم النازي أدولف هتلر في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية وخلالها بغية تنفيذ مخططاته.
تقوم تلك النظرية الإعلامية على إمكانية غرس فكرة معينة في فئات من المتلقين العفويين في غالبيتهم، وذلك من خلال الإعلام المكثف حولها، بشكل يشبه إطلاق رصاصات «سحرية» من وسيلة الإعلام إلى المتلقين، فتكون فاعلة إلى درجة أنه يبدأ الإيمان القوي بها، ومن ثم التحرك الجماعي للمباشرة بتنفيذها. وهي النظرية التي اعتمدت بالدرجة الأولى على علم النفس الاجتماعي والتحليل النفسي، وأكدت أن الرسائل الإعلامية تؤثر فقط على الجوانب الشعورية واللاشعورية للأفراد، لكنها تجاهلت كل العوامل السياسية والثقافية والاقتصادية التي يمكن أن تؤثر على العملية الاتصالية، وهو ما يختلف حاله بشكل أو بآخر عن واقع تأثير وسائل الإعلام السورية على جمهورها.
إذا ما أشرنا إلى النظريات المتصلة بالإعلام، وما يجب التركيز عليه أكثر ضمن ما يصب في خانة «الفلترة» لتلك الوسائل الإعلامية، فإنه يجب التطرق إلى «النظرية التليولوجية» وهي التي تقوم بالحكم على العمل من الناحية الأخلاقية، وذلك بالنظر إلى النتائج الناتجة عنه فيكون مقياس الحُكم في هذه النظرية يقوم على «هل نتيجة هذا العمل كان ذا نتيجة طيّبة أم لا». لقد اهتمت النظريات الفلسفية بأخلاقيات الإعلام بالإضافة إلى تفسيرها، فكان الهدف من دراستها هو وصف أخلاقيات الإعلام ونقدها. وهنا إذا ما طبقنا اتجاهات هذه النظرية على نتائج الوسائل الإعلامية السورية ورجع الصدى على رسائلها عبر السنوات الماضية، نرى كم منها سقط بشكل مريع في فخ أهم النظريات التي تعطي للإعلام قيمته الحقيقية، يُظهر هذا السقوط هول المصيبة التي خلقتها جهات ودول نشطت في الشأن السوري ومولت «ماكينات» تضرب وعي السوريين وتزعزع الثقة بين الجمهور وجهاز الإعلام، من خلال بعض مؤسسات الإعلام التي باتت إداراتها وكوادرها مرتعًا للهواة ومعدومي الكفاءة والمهنية والأخلاق.
منذ سبعة قرون، تنبأ ابن خلدون في مقدمته، بأن سقوط الدول/المجتمعات سيكون عبر انحطاط الأخلاق وترديها، وكذلك كانت بعض الوسائل التي حادت عن المهنية والمسؤولية المجتمعية في تعليم وتثقيف الجمهور وإخباره بالحقيقة بكل موضوعية. غابت عنها الأخلاق المهنية وكانت مطية مال بددته الإدارات المُهلهلة وصرفته على مرتبات موظفين كانوا في غالبهم لا علاقة لهم بالإعلام لا من قريب (أكاديميًا)، ولا من بعيد (موهبة أو خبرة).
لم أقصد الاستخفاف بوعي الجمهور السوري والإدعاء بجهله كاملًا، ولكن من أجل فهم الوضع الذي وصل إليه الإعلام في أذهان السوريين، كان لا بد عن الإشارات التي نوهنا إليها، فقد بات التصنيف والاتهام بالتبعية لتنفيذ مشاريع معنية لكل جهة أمرًا معتادًا لدى نسبة كبيرة من الجمهور تجاه المؤسسات الإعلامية، فضلًا عن انعدام وزن تلك المؤسسات في صناعة رأي عام، بل إن بعضها راح ينقاد وراء الجمهور، فعندئذ نسأل ما هو الداعي لوسائل الإعلام تلك؛ إلا أنها كانت «جمعيات خيرية» للعاطلين عن العمل من جميع التخصصات الأكاديمية ما عدا الإعلام، عدا كونها ذراعًا إعلامية محلية بيد هذه الجهة أو تلك.
غوستاف لوبون، في كتابه «سيكولوجية الجماهير» قال إن من الخصائص المهمّة للجماهير؛ تلاشي شخصية الفرد التي تميزه حينما يكون جزءًا من الجمهور، فلا ذكاؤه سينفعه ولا علمه سيمكنه من اتخاذ قرارات منطقية سليمة. فالفرد حينما يصبح جزءًا من جمهور ما فهو يتحمس لأفكار بسيطة نتيجة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، وقد يفعل أمورًا لا يمكن أن يفعلها إن كان وحيدًا، كالتّضحية في سبيل الهدف، دون تفكير، أو خوف من الموت.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست