(1)
من رحّالة نفد متاع حقيبته، قبل نهاية الرحلة..
تشقّقت ثيابه.. تعفّرت بالتراب..
خارت قواه..
أخلع عنه عاره وفقره..
جدّد حياته، مثل زهرة في غياهب ليلك الرؤوم!
(2)
طاغور..
الأشياء لا تحدث عبثًا.. هكذا يخبرني صديقٌ عزيز. يظل الأمر عسيرًا على التصديق برغم كل شيء.
كانت أول معرفتي بطاغور في كتاب إليزابيث كوبلر روس، عن الموت والاحتضار
On Death and Dying.
في دراستها الفلسفية، اختارت كوبلر روس أن يكون طاغور رفيقها في صفحات الكتاب، وكم كان هذا الاختيار موفّقًا. أضفت أشعار طاغور على الكتاب حالة من العاطفية ساهمت في إحياء التجربة الفلسفية التي تحاول نقلها لنا. يفتتح طاغور لنا الفصل الأول من الكتاب:
دعني أُصلِّ، لا لمأوى من الأخطار، ولكن لئلّا أخاف من الوقوف أمامها.
دعني أتضرّع، لا لتسكين ألمي، ولكن لتمنحني قلبًا يتغلّب على الألم
دعني أبحث في معركة الحياة، لا عن الحلفاء، لكن عن قوّتي أنا..
دعني أكن لا خائفًا يتوق إلى الخلاص، ولكن صابرًا يأمل أن يفوز بالحريّة.
هَب لي ألّا أكون جبانًا.. أشعر برحمتك في السرّاء وفقط، ولكن اهدِني إلى يدك الممدودة عندما أعجز.
(3)
من شبه المستحيل ألّا تلمسك أشعار طاغور من الداخل. فرغم مرورها بعدة مراحل للترجمة من البنغالية إلى الإنجليزية، ثمّ إلى العربية لتفقد كثيرًا من حركتها الأصليّة؛ تظلّ أشعار طاغور أشبه بلغة عالمية ما تربط البشر ببعضهم. الموسيقى هي أقرب شبيه يحضرني. تنزل أشعار طاغور على جفاف القلوب لتشعر بشيء من الحياة يجري في عروقك. شيء من الامتلاء في نفوسنا الملأى بالحنين الغامض.
ولد طاغور في شرق الهند عام 1856م لعائلة ثرية. كان أصغر إخوته، وفرّ – لحسن حظّه وحظنا، أو ربّما بتخطيط إلهي محض – من تعليم المدارس الذي يطبع عقول الأطفال في قوالب ثابتة شبه ميتة. انفتح على كلّ شيء تقريبًا: الفيزياء، الفلك، التشريح، الشعر الإنجليزي، وحتى القانون الذي ذهب لدراسته في بريطانيا وعاد بلا درجة علمية. القوالب والدرجات العلمية لا تناسب روحًا حالمة، مثل روح طاغور.
(4)
يقرّر طاغور فجأة العودة إلى بريطانيا في عامه الواحد والخمسين مع أحد أبنائه. في القطار، يترجم طاغور آخر أعماله حينها، “قرابين الغناء”، إلى الإنجليزية. يراها أحد أصدقاء طاغور الرسامين – نعم كان طاغور رسامًا وشاعرًا وكاتبا وفيلسوفا ومعلما. ينبهر الصديق بهذه الروعة الهائلة. تمسّ روحه كعادة كل من قرأها.
يرسلها إلى وليام بتلر ييتس، أحد أعظم شعراء الإنجليزية. يذهل ييتس. يتلقى اللمسة المعتادة في القلب. يطبع الكتاب في طبعة محدودة عام 1912م ليحصل طاغور على جائزة نوبل بعدها بعام واحد. هكذا تحققت شهرة طاغور الساحقة ووصل إلينا.
الله لا يعبث أبدًا.
(5)
أنت قد جعلتني معلومًا عند أصدقاء لم أعرفهم أبدًا.
أنت الذي منحتني آراءك في بيوتٍ ليست لي.
أنت الذي قرّبت البعيد، وجعلت من الغريب أخًا لي.
(6)
لماذا يلمسنا طاغور جميعًا؟ على اختلاف ألسنتنا وألواننا وعقائدنا؟
ربّما لأنها تخاطب نفحة الله فينا. كانت نشأة الرأسمالية كارثة حقيقية على البشرية، لأنّها عاملت البشر كوحدات إنتاجية. اختصر الفكر البراجماتي الإنسان في مجموعة من الرغبات التي ستصل إلى النجاح – لا السعادة، فالرأسمالية تتخذ الإنتاج هدفًا لا وسيلة لإسعاد البشرية – بمجرد إشباعها. انظر إلى حال العالم من حولك الآن. مجموعة من الأشباح الرمادية المعذّبة التي تجوب الأرض تشبع لذاتها الجسدية، تاركةً أرواحها على حافة الموت عطشًا إلى الخالق، إلى المصدر، إلى ما وراء الطبيعة.
عاش طاغور بمفهوم التدبّر القرآني أفضل بكثير من أغلب مسلمي العالم الآن وقبلًا. لطالما اشتكينا إلى شيوخنا من فقد العبادة لأي معنىً وروح. لطالما شعرنا بأنها عادات خالية من أي زخم روحيّ؛ فقط لنتلقى ردودًا بالصبر، وبالاستمرار على ذات النهج حتى “يفتح عليك الله يا بني”. لِمَ سيفتح عليّ الله؟
لم سيستجيب قلبي للقرعات الفارغة من الخارج بينما لم أُعر – يا شيخي – انتباهًا للقفل الصغير الموضوع على الباب؟ لم أكرّر ذات الحركات الميكانيكية الفارغة على أمل أن تمتلئ وحدها بحبّ الله والعمل من أجله؟ ألسنا هنا لنبحث عن الله؟ ألا يقترب منّا حين نقترب نحن منه؟
(6)
– أيها السجين قل لي: من هو الذي أوثق سلاسل قيدك التي لا تنكسر؟
– لقد كان أنا.
(7)
وصل طاغور إلى مفاهيم عرفناها طويلًا في إسلامنا ولم نتدبّرها، بينما عرفها هو بالتدبّر. مثلًا يضع طاغور فهمًا جديدًا لنِعَم الله التي لا تعدّ ولا تحصى.
هذه الهدايا التي لا تحصى تأتيني وحدي.
.
في هذه الأيادي الصغيرة التي هي لي
تمرّ العصور وما زلت تمنح
وما زال هنالك مكان يمتلئ بعطاياك.
كل خير الله يصبّ في بيت طاغور. كل خبز على كل مائدة تُتلى عليه صلاة مسيحية أو بوذية سيسري إحساس الشبع في نفس طاغور. كل طفل يضحك يغمر بحبّه ودفئه طاغور. هل هذا قليل؟
بالرغم من كل هذا لم يعتزل طاغور العالم. سافر طاغور إلى العديد من البلاد. رافق غاندي وساهم في حركات الهند التحررية من بطش إنجلترا. تخلّى عن أحد الأوسمة التي منحتها إياه بريطانيا بعد أن ذبحت 400 نفسٍ في عام 1919م.
أدرك طاغور أن السعي إلى الله ليس بالصلوات الفارغة، الصلاة مهمّة، ولكن الحياة جزء أصيل من الصلاة لله.
دع عنك هذا الإنشاد والغناء وأنباء التسابيح!
من ذلك الذي تعبده في الزاوية المعتمة من معبد كل أبوابه مغلقة؟
افتح عينيك لترى أن الإله ليس هناك أمامك!
إنه هناك، حيث يحرث الفلاح الأرض الصلبة..
وحيث معبّد الطريق يكسر الحجارة!
إنّه بمعيّتهم تحت الشمس ووابل المطر وثيابه مغطّاة بالعفار..
ضع جانبًا رداءك المقدّس ومثله اهبط إلى عفر التراب!
(8)
لم تخلُ أشعار طاغور، كما هو واضح؛ من مغالطات تخالف عقيدتنا كمسلمين. وليس هذا غريبًا، فالتجربة الإنسانية رغم أنها تبحث عن الخالق الكامل، تظل إنسانية يتخلّلها الخطأ الحتمي، مهما بلغ الباحث من تجرّد عقلي وروحي. كان تأثر طاغور واضحًا بديانات تعدد الآلهة وتجسيدها في الهند وبنغاليا، وصوّر الإله أكثر من مرة عَطِشًا أو جوعانَ أو ملكًا متوجًا أو حزينًا. أخطأ طاغور من وجهة نظرنا على الأقل، لكنه أخطأ وهو يبحث بجدّ واجتهادٍ عن الله، ولن أخوض في النقاش المعتاد عن رحمة الله بغير المسلمين، لأن تجربة طاغور لا تحتاج إلى ذلك. هي أسمى من ذلك وأكبر.
ابحثوا عن الله في قلوبكم، في أحبتكم، في عجزكم وفشلكم، في علمكم وجهلكم، وفي آمالكم المحطّمة ونفوسكم المعذّبة. الخوف من الخطأ يحجب الصواب، والناس من خوف الخطأ في خطأ بيّن. لا تقرؤوا أشعار طاغور لتلتمسوا لذة عاطفية روحية سرعان ما تزول، بل استلهموا منها ما يعينكم على رؤية جانب صغير من حقيقة الله. ارفضوا ما كتب فيها وابحثوا بأنفسكم. لكن لا تتوقفوا في منتصف الطريق طالما ما زال في العمر بقيّة.
(9)
أختتم بهذه الفقرة من مقدمة وليم بتلر ييتس للكتاب، وعليكم السلام.
“إن هذه الأشعار لن تنام في كتيبات صغيرة حسنة الطباعة، على أرفف طاولات النساء اللواتي يقلبن الصفحات بكسل، ربما لحيواتهن الخاوية معدومة المعنى. لن يحملها طلّاب في الجامعة ليضعوها جانبًا حين تبدأ الحياة الحقيقية. لكن بعبور الأجيال، سيتغنّى بها الرحالة على الطرق العالية، والرجال الذين يجدّفون في الأنهار. العشاق، وهم ينتظرون بعضهم بعضًا، سوف يجدون وهم يترنمّون بها، حبّ الله. هذا خليج من السحر حيث يمكن لعواطفهم المرة أن تسبح وأن تجدّد شبابها. في كل لحظة يتدفّق قلب هذا الشاعر نحو الخارج صوب أولئك المحبطين والمقهورين، لأنه قد عرف أنهم سوف يفهمون”.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست