في عام 62 للهجرة، هجم جند يزيد بن معاوية، يقودهم سفاحه مسلم بن عقبة، على أهل مدينة رسول الله، فأسرفوا فيهم القتل، وأباحها يزيد لجنده ثلاثة أيام يفتكون فيها ويهتكون بدون حساب. ولما وصلت أنباء هذه الفاجعة إلينا بمكة، وكان من ضمن من قتلهم جند يزيد أمير صنعة الغناء بالمدينة ثائب خاثر، الذي كان قد سمعه ذات يوم يزيد ومن قبله أبوه معاوية وأطربهما، إلى أن ذلك لم يشفع له عند بني أمية فقتلوه. صعدت جبل أبي قبيس يومها ونُحت بهذا البيت:

يا عين جودي بالدموع السفاح                                                               وابكي على قتلى قريش البطاح

فبكي الناس كمدًا، ونكأ غنائي جراحهم، و كان هذا أول شهرتي. وتقدمت على ناحة مكة والمدينة والطائف، على كثرتهم وقدمهم، ثم أرسلت لي بعدها سكينة بنت الحسين تطلب مني أن أصنع نوحًا في هذا البيت، أبكي فيه سادة بني طالب:

يا أرض ويحك أكرمي أمواتي فلقد ظفرت بسادتي وحماتي

فصنعت فيه نوحًا لم يصنعه أحد من قبل، وكافأتني فيه سكينة بنت الحسين خير المكافأة، وأقرتني سيدًا لنائحي مكة والمدينة، ثم أرسلت إلى داري بمملوك لها اسمه عبد الملك أعلمه النياحة، فجلست على يديه مدة أعلمه وأهذب من صوته، حتى توفي محمد بن الحنفية عمها، وبي علة صعبة أرقدتني عن النياحة في مأتمه، فانتدبت السيدة سكينة يومها مملوكها عبد الملك لينوح مكاني، فكان له عند سامعيه غاية الأثر . وقيل ساعتها: هذا نوح غريض، فسمي بالغريض، وزارني صديق وقال يغيظني: والله لقد ناح على بن الحنفية عبد الملك أجود نياحة، حتى قدمه الناس عليك!

فحلفت ألا أنوح بعد اليوم، وألا أقدم على أمر من أمور الفن يسبقني فيه أحد، وتركت النوح إلى الغناء، وخلدت به اسمي فكان يقال الغناء ابن سريج.

اسمي عبيد بن سريج، أبي كان مملوكـًا أصله من بلاد الترك، نشأ عند سادته من بني نوفل بن عبد مناف، وولدت في مكة في أيام الخليفة عمر بن الخطاب، وشاهدت الخليفة عثمان في صباي، وتحدثت بلسان أهل مكة، ولم أعرف لسانـًا غيره طوال حياتي، وفي أيام عبد الله بن الزبير، استجلب بعضًا من العجم، لإعادة بناء الكعبة بعد أن أحرقت وتهدمت، وكان لهم غناء عجيب ونغم عجيب يعزفونه، فتبعتهم حينها وأخذت منهم أصول النغم والضرب على العود، فكنت أول من ضرب عليه وغنى وفق نغماته من العرب، و تفوقت على أستاذي بن مسجح في التلحين، وتطويع ألحان العجم إلى لغة العرب، واعترف الجميع لي بالأستاذية في مكة والمدينة على كل مطربيها، وفيهم ابن مسجح وابن محرز بمكة، وعبيد ومالك بن أبي السمح مطربي المدينة، ودليلي على ذلك، أنه قدم علي ذات يوم بعض فتيان بني أمية قادمين من المدينة، و قد سمعوا بها معبدًا ومالكـًا، و أطربوهم حتى ثملوا. فلما دخلوا علي و جدوني مريضًا لا أقوى على القيام فقالوا:

– جئناك مسلمين، وكنا نشتهي سماعك.

فقلت: إن بي علة ومرض!!
فقالوا: نرضى منك باليسير

فخجلت منهم وهم من هم وأمرت بالعود، فغنيت لهم على قدر ما استطعت، إكرامًا لزيارتهم، وقلت: عذرًا فهذا ما قدرت عليه في مرضي.

فقالوا: والله ما سمعنا مثل هذا من قبل، وأجزلوا لي العطاء، ثم انصرفوا، وبلغني أنهم لما مروا على المدينة ثانية في طريقهم إلى دمشق، سمعوا معبدا ومالكـًا، وكانوا قد طربوا لهم قبل سماعي، فلم يستحسنوا منهما شيئـًا هذه المرة، وقيل لهم: نقسم بالله أنكم سمعتم ابن سريج في مكة، فقالوا: نعم، ووالله ما سمعنا مثله قط، وبتنا لا ندري اسنطرب لصوت غيره بعد اليوم أم لا.

وهب الله الغريض تلميذي وجهًا طريًّا و منظرًا حسنـًا، و صوتـًا شجيـًّا، افتتن الناس به، إلا أنه لم يكن مثلي ولم يجتهد قدري، فبات دومًا يحسب بعدي، وقد كنت أحسده على حلاوة منظره وجمال هيئته وأقول في نفسي لو أن الله جمع لي الصوت الشجي مع الوجه الفتي الذي للغريض، لكنت فتنة للناس ما بعدها فتنة، إلا أن الله قد وهبني جمال الصوت وعذوبته، وحرمني من جمال الوجه وحسنه، فخلقت وبي حول جعل كل عين تنظر عكس الأخرى، ولي صلعة قالت جميلة سيدة غناء أهل المدينة، إنها والله أقبح صلعه رأتها في حياتها، وقد دعتني ذات يوم الي بيتها في المدينة، وقد ارتدت برنسًا مصبوغـًا طويلاً، وألبست جواريها برانس أقل طولاً فبدت في وسطهم كالقمر وسط النجوم، و ألحت علي في دلال كي أرتدي برنسًا قد جلبته لي لتراني فيه، ففهمت أن اللئيمة إنما أرادت هذا لتنزع عني وفرة الشعر التي أغطي بها رأسي فترى صلعتي، وقلت: لها إنما كدتي هذا لتفضحيني يا جميلة!

فضحكت وقالت: والله هو هذا، والأمر لك يا بن سريج، فافعل ما ترى، فخلعت وفرة الشعر، وبانت صلعتي . فضحكت هي وجواريها من قبح منظري، ولم ينقطعوا حتى أمسكت عودي وغنيت:

إني أقول مقالة بتجارب حقا ولم يخبرك مثل مجرب
صاف الكريم وكن لعرضك صائنا وعن اللئيم وفعله فتنكب

فما أنهيت غنائي إلا وقد مسهم الطرب، و ملأت عيونهم دموع النشوة، وقامت جميلة فقبلت رأسي وأحضرت لي كل ما لديها هي وجواريها من وفرات الشعر فانتقيت منها واحدة صفراء ظننتها حسنة، وضعتها على شعري فكنت كالرومي الأحول في أعينهم، وعاودهم الضحك من جديد، فهممت بمسك عودي والغناء لولا أن مسكت جميلة على يدي وقالت: أعزك الله يا أبا يحيى، كفانا من الدمع ما أسلته الليلة.

لم يكن قضاة مكة والمدينة يقبلون منا شهادة نحن أهل الغناء والطرب، وكان فقهاؤها يتجنبون الحديث معنا ظنـًا منهم أننا فتنة، واذكر يوم لقيت فقيه مكة عطاء بن رباح، في موضع بها، وعلي ثياب مصبوغة وألعب لعب الأطفال، فرآني على هذه الحال وقال لي معاتبًا: يا فتان أما تكف عما أنت فيه، وتكفي الناس مؤونتك.

فسألته متعجبًا: وما على الناس من تلوين ثيابي ولعبي، وأية فتنة أفتنهم بها بوجهي هذا؟!

فقال: تفتنهم بصوتك وأغانيك الخبيثة.

فقلت له: سألتك بحق من اتبعتهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، إلا ما سمعت مني بيتـًا من الشعر، فإن سمعت مني منكرًا أمرتني بالإمساك عما أنا فيه، وأنا أقسم بالله لئن أمرتني بعد سماعك مني بالإمساك عما أنا عليه لأفعلن ذلك فلا أغني أحدًا أبدًا.

فأطمع قولي ابن عطاء في إقلاعي عن الغناء، وقال لي: إذن أسمعني

فانطلقت أغني شعر جرير:

إن الذين غدوا بلبلك غادروا وشلا بعينك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا

فلما أسمعت الفقيه بن رباح و هو من هو بزهده وعلمه، اضطرب اضطرابًا شديدًا ومسه شيطان الطرب، فتركني وقد حلف ألا يكلم أحدًا طيلة اليوم إلا بهذا الشعر، فكان كل من يأتيه في المسجد الحرام سائلاً عن حلال أو حرام، لا يجيبه إلا بأن يضرب كفـًا على كف و يردد هذا الشعر، حتى صلى المغرب ، ولم يعد ابن عطاء من بعدها يتعرض لي في أمر الغناء!

خرجت مع عمر بن أبي ربيعة، على جملين ملبسين بالديباج، نتسكع في شعب مكة، وكنا وقت الحج، وكان عمر يتصيد الجميلات من النساء كعادته التي عرفها القاصي والداني عنه، حتى أظلم علينا الليل وطلع القمر، فقصدنا كثيب رمل مرتفع، فانطلقت أسمعه صوتـًا لي جديدًا . وإذا برجل على ظهر فرس فاره يقبل علينا، فسلم وقال لي: هلا أعزك الله أن تعيد علي هذا الصوت؟!!

فأعدته عليه، فقال لي: بالله أنت ابن سريج؟

– نعم!

والتفت إلى عمر وسأله: بالله أنت عمر بن أبي ربيعة؟!!

فقال له عمر: نعم

– حياك الله

فسأله عمر: وأنت حياك الله قد عرفتنا، وما عرفناك، فعرفنا بنفسك؟!

فقال الرجل: أنا يزيد بن عبد الملك

فوثب إليه عمر فعظمه، ووثبت أنا إليه فقبلت طرف ثوبه، فدفع إلي بحلته وخاتمه، ومضى يركض حتى يلحق ركابه، فدفعت الحلة والخاتم إلى عمر وقلت له: إن هذين بك أشبه، وإن لك فيهما حظ!! فأخذهما عمر وأعطاني ثلاثمائة دينار، وجلسنا ساعتها نتغنى على ما نحن فيه هذه الأيام، من أيام بن الزبير وما كان فيها من قحط وتضييق علينا.

وأذكر في أواخر أيامي بعد أن كل نظري وضعف صوتي، أن جاءتني دعوة إلى منزل السيدة سكينة بنت الحسين في المدينة؛ لأستمع معها ومع معبد والغريض وغيرهم من تلاميذي الذين باتوا من كبار مطربي المدينة الآن، إلى حنين مطرب الكوفة، وكنت قد سمعت عنه سمعًا حسنـًا، ودعوته من ذي قبل لزيارتي فصعب عليه القدوم حينها، ولما دخلنا إلى الدار أذنت السيدة سكينة للناس كلهم أن يدخلوا ويستمعوا معها لهذا الجمع من سادة الغناء بمكة والمدينة والكوفة، حتى غصت بهم الدار وصعدوا فوق السطح. ثم سألت السيدة سكينة الحنين أن يغني لحنه (هلا بكيت علي الشباب الذاهب) فغنى الحنين وأبدع وازدحم السطح بمن فيه، حتى سقط على من تحته فنجوا كلهم، إلا الحنين وحده من مات، فلم أدر ساعتها أأبكيه على موته أم أضحك على شؤم مقدمه.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد