12:00 02 مايو, 2020
اختصر الفهم الصحيح لتعاليم «لا إله إلا الله» على الأمة الإسلامية التجارب الدموية البشرية مع طبيعة الإنسان بينه وبين قرينه، وبينه وبين الطبيعة المحاط بها المجبور قهرًا على التَكَيُّف مع قوانينها، نقلت آلية الحكم الرشيد وتَعظيم قيمة الإنسان على المادة المحيطة به، أمةً من رعاة للغنم إلى ساسة لإمور الأمم، اختصر النهج الرباني على أمة الإسلام أعمارًا مِنْ أعمار أمُم سبقته ولحقته حتى دانت له قلوب البشر وأجسادهم طوعًا لا قسرًا في زمن قياسي لم يسبق قبله ولا بعده دين مادي، إن الأمة العظيمة الأمريكية المادية نقلت مادية الإنسان جميعها في زمن قياسي نقلةً نوعية وحضارية سبقت به كل الأمم بما فيها أمة الإسلام منبع الحضارة، ولكن بعد تجارب دموية، فيما بين الأمة ونفسها، وما بين الأمة وجيرانها وما بين الأمة ومستعمريها، إن هذا التقدم السريع الذي نقل الإنسان من ركوب الدواب إلى الهبوط على الكواكب كان نَتيجة حتمية لتقديم إنسان هذه الحضارة على محيطه، فتَقَدُم الإنسان في مجالات الحياة يكون بعد تَقَدمه على محيطه، استسلمت هذه الأمة المادية للفطرة القرآنية التي سبقها بها النهج الرباني منذ 14 قرنًا من الزمان، إعلاء قيمة الإنسان على مَا سِواه.
أَعْلَى مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فيما بينهم قيمة الإنسان فكل منهم ينظر للأخيه نظرة القرآن وفلسفته ورؤيته لبني الإنسان يقول سيدنا عمر وهو يصف حالة قلبه في مَوْضع يُقَدَّم ليكون وريثًا للنبي صلى الله عليه وسلم على أمَّة الإسلام، فيقول بعد تقديم أبي بكر له «وَلَمْ أَكْرَهْ شَيْئًا مِمَّا قَالَهُ غَيْرُهَا، كَانَ وَاَللَّهِ أَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبُ عُنُقِي، لَا يُقَرِّبُنِي ذَلِكَ إلَى إثْمٍ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ». إنه الدهاء السياسي الممتزج بطهارة القلب، وحلاوة الإيمان، وطلب الآخرة، إنَّ صفاء القلب مِنْ زينة الدنيا، جعلت عمر رضي الله عنه يضع نفسه في الموضع الصحيح، لتستقيم أمر الجماعة المسلمة، فيستقيم أمر الأمة، كيف لعمر أن يَقْبل على نفسه أنْ يَؤمَّ أمَّةً فيها مَن سَبق الجميع دَهاءً وصفاءً ورحمةً وسياسةً بعد النبي محمد!
لم تتوقف آراء المجتمعين عند هذا الحد، بل أضافوا بعد رأي أبي بكرٍ رأيًا، قد ينظر إليه أنه رأي للفرقة والتقسيم، لكنه رأي لم يخش صاحبه الإفصاح عنه، بل نوقش وتحدثت حوله الألسنة، فيقول سيدنا عمر «قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ. قَالَ: فَكَثُرَ اللَّغَطُ، وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ، حَتَّى تَخَوَّفْتُ الاخْتِلَافَ، فَقُلْتُ: اُبْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَبَسَطَ يَدَهُ، فَبَايَعْتُهُ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْأَنْصَارُ، وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ. قَالَ: فَقُلْتُ: قَتَلَ اللَّهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ».
مارس سيدنا عمر دور ضابط الإيقاع للجلسه، فأعلن وسط صخب الأصوات، وحدة النقاش.. اقتراحًا.. فهذا الاقتراح لم يكن ليقبل لولا موافقة الغالبية عليه، والجميل في الأمر أن عدد المهاجرين قلة والأنصار كثرة، فلو رفض الأنصار مبايعة أبي بكر لما تمت له بيعة، بل كان باستطاعة الأنصار فرض خليفة من ساداتهم، لكن كيف لرجال تربوا على هدي الرحمن أن يتحزبوا لأمر غير أمر الله وهديه! يقول الله عز وجل «وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ»، هذا التحزب الرباني جعل من رجال الجماعة المسلمة جميعهم ينزون عن العادات والتقاليد وهوى النفوس، يصف عمر حال رجال الجماعة المسلمة بعد طرح خلافة أبي بكر على مائدة التصويت فيقول «فَقُلْتُ: اُبْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَبَسَطَ يَدَهُ، فَبَايَعْتُهُ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْأَنْصَارُ، وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ. قَالَ: فَقُلْتُ: قَتَلَ اللَّهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ».
كلمة نزونا مصدر من نزا أي وثب فوثب الأنصار على سيدهم سعد بن عبادة حتى كادوا من تسابقهم لبيعة أبي بكر يقتلون سعد بن عبادة! إنه التحزب لهدي الله تحزب يُشْعل في القلب ثورة من نور، هذه الثورة الربانية التي جعلت إنسان ذاك الزمان أرقى إنسان عرفته البشرية، فأنتجت نموذجًا سياسيًا اجتماعيًا فريدًا لم يَجُدْ بِه الزمان قبل ذاك ولا بعده، أنتجت أبا بكر الصديق، هذا النموذج الرباني الذي أول مَنْ أصل نورًا بين علاقة الحاكم ومحكوميه، فيقول في أول خطبة بعد مُبايعته مِن عامة المسلمين «تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِاَلَّذِي هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي، الصَّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا ضَرَبَهُمْ اللَّهُ بِالذُّلِّ، وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إلَّا عَمَّهُمْ اللَّهُ بِالْبَلَاءِ، أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ. قُومُوا إلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ». كيف لا ينطق بهذه القاعدة النورانية! وقد جمع الله أمرهم عَلَى خَيْرِهِمْ، صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثَانِي اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ.
إنَّ هذه القاعدة السياسية الاجتماعية أول دستور مُنذ أنْ خلق البشر يَزن العلاقة بين الحاكم والمحكوم بميزان الذهب، ويضع الحاكم في الموضع الصحيح، الذي ينبغي أنْ يوضع، إن هذا الدستور الإنساني حافظ على القيمة الأساسية التي أرفقها الله مع خلق الإنسان، إنَّ محاسبة الحاكم المُسْتَدامة طِيلة العقد المُتعاقد عليه بين الحاكم والمحكوم، لم تَكَنْ سَرت في أمة قبل أمة الإسلام، بل لم يُذِعْ حاكمًا يومًا مَا أنَّه ليس بِأَخْير مِمن يَحكمهم، إنَّه أول إعلان للمساواة بين المحكموين دون تَكَّون مجموعات صراع حول الحاكم تُمْنَح لهم مَزايا، فيُرْفع أقوامًا ويهبط آخرين طبقًا للقرب والبعد مِن الحاكم، إنَّه أول دستور إنساني لايفصل بين الدين والحياة ويعقد عقدة وثيقة بين إطاعة الحاكم في كل أمر بتنفيذه لأوامر الله وجعلها شرط استتباب طاعته بين الأمة،
لكن هناك قاعدة لابد عنها لتندمج مع القاعدة الأولى فتنتج مجتمعًا سويًا يتقدم بخطوات متوازية نحو الحضارة والرقي، دون تعثر، هذه القاعده هي ما على المجتمع فعله تجاه نفسه وتجاه الحاكم، وهو إصلاح ذاتي وتطهير داخلي ديناميكيّ، يتجدد من تلقاء نفسه كما يجدد ملح البحر نقاوة هواء الكون فيقول سيدنا أبو بكر «لا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا ضَرَبَهُمْ اللَّهُ بِالذُّلِّ، وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إلَّا عَمَّهُمْ اللَّهُ بِالْبَلَاءِ،» إن سيدنا أبا بكر هو أول إنسان وضع دستور رباني لايغفل مادة الإنسان، بل يوثق بينها وبين الروح ميثاقًا غليظًا، يصعب فكه، وينتقل بمادة الإنسان إلى قمم الهمة، فينتج من ذلك صلاح البر والبحر.
هذا النور الرباني الذي نتج من توافق الأمة بعد المشورة على صديق الأمة لم يتوقف إشعاعه عند حد معين، بل انطلق بكل زوايا الضوء بألوانه السبعة في رحاب الكون، ليرسم لوحة فنية زيتية تختلط فيها الألوان بريشة فنان مبدع، يُبْهر الناظر، وَيأسر المُتبصر، فسعد بن عباده لم يبايع أبا بكر لأمر خالط قلبه، فهذا السيد الكبير الشريف أبو قيس الأنصاري الخزرجي الساعدي المدني، النقيب سيد الخزرج. «فعن ثابت، عن أنس، قال: لما بلغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إقفال أبي سفيان قال: أشيروا علي. فقام أبو بكر، فقال: اجلس. فقام سعد بن عبادة، فقال: لو أمرتنا يا رسول الله أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا». ومع فضائله الكبيرة، لم يباع أبا بكر، فيحدثنا« محمد بن صالح عن الزبير بن المنذر بن أبي أسيد الساعدي أن الصديق بعث إلى سعد بن عبادة: أقبل فبايع؛ فقد بايع الناس. فقال: لا والله، لا أبايعكم حتى أقاتلكم بمن معي. فقال بشير بن سعد: يا خليفة رسول الله، إنه قد أبى ولج، فليس يبايعكم حتى يقتل، ولن يقتل حتى يقتل معه ولده وعشيرته، فلا تحركوه ما استقام لكم الأمر، وإنما هو رجل وحده ما ترك. فتركه أبو بكر» بل لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل في خلافة عمر لقيه فقال: إيه يا سعد! فقال: إيه يا عمر! فقال عمر: أنت صاحب ما أنت صاحبه؟ قال: نعم. وقد أفضى إليك هذا الأمر، وكان صاحبك – والله – أحب إلينا منك، وقد أصبحت كارهًا لجوارك. قال: من كره ذلك تحول عنه. فلم يلبث إلا قليلًا حتى انتقل إلى الشام، فمات بحوران.
إن هذا السلوك السياسي لم يكن سلوكًا اعتاد عليه حكام الدنيا ممن سبقوا هذا الجيل المُتَبصر، كيف لملك يطلب من محكوم يمتلك أمره أنْ يُبايعه بعد أنْ تَمَّلك أركان الدوله! إنِّه فهم لحقيقة الاستخلاف في الأرض، وأنَّ الإنسان يستحيل أن يملك إنسانًا، ولا أنْ يتبعه دونًا عن طيب خاطر، وفي نطاق العقد الذي بينه وبين الحاكم.
إنَّ مدرسة القران الكريم أنتجت وفي زمن قياسي ما لم تستطع أي مدرسة فكرية فلسفية إنتاجه في قرون، فالقرآن يجمع بين علوم الدين والدنيا يقول الله عز وجل «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ».
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
مبدأ فصل السلطات
محمد ايت تمريرت
بطليموس الأول.. عبقرية القيادة
أسامة الزغبى
هل يستعد نتنياهو للعودة في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة؟
الطاف موتي
عرّفنا بنفسك!
محمد مروان أبو غزالة
سيتم إرسال تعليمات إعادة تعيين كلمة المرور إلى بريدك الإلكتروني.