إن الحديث عن البحث العلمي بالمغرب ليس بالأمر اليسير، تتداخل فيه مجموعة من العوامل منها ما هو مجتمعي، في العلاقة بين المجتمع والعلم والتي تحتاج لمزيد من الدراسة والفهم، وما هو تربوي في علاقة الجامعة بالمؤسسات التعليمية الأخرى التي هي امتداد لها، والسياسات العمومية التي تضع التنمية من أولوياتها وتتغـافل أن البحث العلمي مدخل من أساسياتها، لأنه النواة التي ترتكز عليها الدول المتقدمة، وكذا الدول التي تريد تغيير حالها للأفضل.
فالبحث العلمي دراسة دقيقة مبنية على قاعدة علمية متينة أساسها الافتراضات المنطقية، ومعتمدة أدوات اشتغال ومناهج علمية، بغية الوصول لحقائق وتفسيرها وفهمها والتحكم فيها، وهو عملية ديناميكية، لأننا اليوم انتقلنا من الكشف عما هو كائن وثابت إلى التفكير في واقع مُركَّـب ومُعـقَّــد، كما يقول المفكر الفرنسي إدغار موران. وهذا يستلزم موارد ودعمًا ماديًا لا يتم أخذه بعين الاعتبار، وهو عامل مادي ينضاف للعوامل المتداخلة عند تشخيص واقع البحث العلـمي.
إن المغرب يخصص للبحث العلمي 0.7٪ من ناتجه الداخلي الخام، وهي ميزانية ضعيفة جدًا، وذلك في تقرير منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) حول نفقات دول العالم المخصصة للبحث. إن الحقيقة الثابتة التي لا يمكن تَنـاسيها أن الاقتصاد اليوم بات يتأسس على المعرفة وقائمًا عليها، وأن القيمة أو القوة الدافعة للمرحلة الجديدة من الحضارة هي المعرفة، وتَغـيُّـر معيار التقدم والنمو مما هو مادي ومالي، إلى قدرة الأفراد في الابتكار والإضافة، وأن المعرفة هي العنصر الأساسي لقياسها.
فإذا كان المغرب يأمل فعلًا في تحقيق التنمية المستدامة يجب ألا تقف مشروعات البحث عند الإخراج، وأن تتجاوزه إلى الإنجاز والبلورة وأن تتحول إلى منتجات ودراسات استثمارية داعمة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويكون ذلك بإدماج مراكز البحث والمختبرات الجامعية، في مخططات التنمية وتمويلها لأنها ستساعد صناع القرار في اتخاذه. والأمثلة كثيرة لدول لا تَخطو في أي مجال إلا بعد دراسة مستفيضة، منطلقة من واقعها ومبتعدة عن الارتجال وغير مقلدة للنماذج.
إن الحديث عن البحث العلمي لا يكتمل دون الحديث عن الجامعة المغربية فهما ثنائية لا تنفصل، وهي منتج رئيسي للبحث العلمي الذي يجب أن تبدأ أسسه في المدرسة. وهذه الأسس الثلاثة – المدرسة والجامعة والبحث العلمي – حلقة متكاملة، لأن عملية البحث مسألة تربوية بالأساس، ومن المفترض أن تكون في المناهج التعليمية ليتأسس الجسر المفضي للبحث العلمي الجامعي. لأن مسألة التعليم عمومًا مرتبطة بالمجتمع وبمشكلاته وبتطلعاته ويجب أن تتدخل الجامعة على وجه التحديد في التنمية الاجتماعية، ومن يقول إن الجامعة والمدرسة بجميع أسلاكها (الابتدائي، والثانوي الإعدادي، والثانوي التأهيلي)، يجب أن تتخذ موقفًا محايدًا من التنمية لكي تؤدي مهمتها المرجوة فهو مخطئ جملة وتفصيلًا.
كم من ندوة عُـقدت وكم من مؤتمر صيغ للنهوض بالبحث العلمي، لتجاوز هذه الوضعية، لكن المفارقة أنه في كل مناسبة يُتخذ شعار التقييم والتجاوز، ولا أحد يعلم متى ستُبلـور تلك الشعارات وتلك الخلاصات والتوصيات التي تتلاشى مع انتهاء اللقاءات، وتعقد أخرى تتعرض هي كذلك للسهو والغفلة. ألا يعلمون مدراء ورؤساء مجالس التربية والبحث أن هناك ضعفًا كبيرًا على مستوى التمويل؟
أليس من التبصر الرفع من الإنفاق في الميزانية المرصودة؟ لكن الباحث يتجاوز ذلك ليصادف أن بعض المؤسسات تعتنق شعار «سري للغاية»، في كل ما يتعلق بمعطيات وإحصاءات، فيظل يلهث وراءها ولا يُحصِّل إلا على النزر القليل! ألم نتساءل: لِـــمَ أصبحنا في أزمة بحث؟ ألا يجب إحداث ثورة حقيقية في مقاربة البحث العلمي بشكل شامل، والقطع مع التوجهات الإيديولوجية والسياسية الضيقة؟ أو أن الاستعانة بالباحثين وحاملي الشهادات العليا والدكتوراه في جامعات ومعاهد البحث يعتبر بدعة؟ وكيف نفسر ذلك الكم الهائل من التعليقات المتسمة بالحُــرقَـة التي تعقب تلك المؤتمرات واللقاءات التي يبث محتواها على المواقع الإلكترونية، ولا نجد ولو تعليقا واحدا فيه نظرة انفراج وتفاؤل؟ هناك من سيقول إنها نظرة للنصف الفارغ من الكأس، أقول لهم لا تغرنكم المظاهر فعند قربكم أكثر من الكأس ستجدون ذلك النصف معبأ بالسراب. فأعــــــــيدوا النظـــر!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست