التراكيب المعقدة في الإستراتيجيات المعاصرة
هناك بعض التشوفات لا يستطيع المرء تجاوزها والمرور عليها دون تناولها نقدًا وتفنيدًا، وبوجهٍ خاصٍ إذا كانت موردة بالمشاع، وليست ضمن حيز يردها إلى أصول محددة أو يحكمها في زاوية القصد، خارج عالم السياسة يجب أن يخرج الرأي من قاعدة أو يُستمد أو يُسنَد على أصل كالعلوم الفقهية على سبيل المثال، تركيبة الأشياء في الإستراتيجيات المعاصرة لها ما يحكمها أكاديميًا، ومن الممكن القول (فقط من الجانب التنظيري)، لكن الإحاطة المتواترة، قد تُلزم في الممارسة السياسية على خلق قواعد هندسية ذات قوالب مرنه تمنحك فرصًا للتحور، وأن تكون جبانًا في ثوب شجاع ومرن في ثوب غليظ، وأن تفكر بالانسحاب قبل البدء في الهجوم، فأينما تكون السياسة فثمة سوء الظن، لأن اللاعب الذي بيده أوتار آلة العزف لا يحكمه قانون، ويُغلّب في سيمفونياته بقدر أكبر النشوز على التناغم.
نظام أنقرة والاستثمار في الأزمات الدولية
نظام أنقرة يُجيد استثمار العصرات الدولية، كما يجيد بسط النفوذ عبر الأزمات، بقدر المتاح له من ثغرات، قد يكون محقًا، لكن هذا الإحقاق ليس سندًا شرعيًا للعب دورًا إقليميًا إذا لم يمتلك أدوات الاستثمار في الجغرافيا، فتركيا لها تاريخ حديث مُدَوّن، وأسرار متراكمه.. بحكم أنها آخر إمبراطورية حكمت العالم الإسلامي وبعض الجغرافيا المتاخمة لحدودها، لهذا فإن نظام تركيا لا يُمرر الأحداث الإقليميه دونما أن تستفز خبراته ومخزونه المعرفي.. حتى يحتاط للأمر قبل وقوعه، وفي ظني هذا من حِكَم التدبير، ولقد أجادت تركيا اللعبة في المشهد السوري والليبي، وأنهت صراع أزربيجان مع أرمينيا لصالح أزربيجان بخفة وحرفية متناهية، كما ساهمت في ضبط الصراع السعودي الإماراتي في مواجهة قطر طيلة فترة حكم ترامب، وقد تتدخل لحسم المسألة في اليمن، برغم تعقيداته من ناحية الديموغرافيا وطبيعة المتصارعين فيه.
التقارب بين القاهرة وأنقرة
معلوم بالضرورة أن انتقال السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية من الجمهوريين إلى الديمقراطيين أحدثت بعض التغييرات الفرعية غير الجوهرية، وبهذا القدر يستثمر نظام أنقرة هذه المساحة لموطئ قدم جديد للبناء والهدم إذا جاز لنا التوصيف في شرق المتوسط، أو لخلق تحالفات وتفاهمات، وكسر أخرى، من اللافت للمراقب، أن أنقرة تسعى جاهدة إلى بناء التحالفات مثال تحالفها مع باكستان، وماليزيا، وإندونسيا، ومع ليبيا، برغم محاولات ضربه، وهناك بادرة تقارب بين القاهرة وأنقرة، بحسابات إستراتيجيه ترمي إلى فك التحالف المصري اليوناني القبرصي الذي انضمت إليه فرنسا لاحقًا، ويلعب فيه الكيان الإسرائيلي من طرفٍ خفي.
المعارضة في الخارج ورد الفعل حيال التقارب المصري التركي
المعارضة في الداخل والخارج كانت تنظر إلى الأمر باستهجان وعلامات من التعجب، وبدوري في المقابل أطرح علامات التعجب لتعجبهم، لم تفطن (المعارضة) أن المبدأ في السياسة المعاصرة محكوم بحسب المناخ العام وبمقادير المكسب والخسارة، فالقسمة في الحل السياسي تخضع لمفهوم نسبي جزئي، وليس مطلقًا كليًا، لا مجال للعاطفة والمؤاخاة إذا لم تكن المحصلة النهائية لصالح الطرفين، والمثير للدهشة، هذا التعاطي الأرستقراطي في المنظور الكلي للمعارضين السياسيين لتغيير سياسة الطيب أردوغان الذي لم يقع بحساباتهم وإغفالهم بتقلبات السياسة يشكل عام، برغم أنهم، أي المعارضة المصرية، كانت أول المهللين فرحًا بقدوم بايدن ورحيل ترامب.
هل من بارقة أمل للإفراج عن المعتقلين؟
المعطيات تشير لإستجابة نظام القاهرة للتفاهمات مع أنقرة، مع مراعاة ضبط لهجة الانتقاد الحادة لإعلام المعارضة في إسطنبول للنظام في مصر، وقد كان، وثمة محادثات تدور بين النظامين للإفراج عن المعارضين السياسيين، أرى أن القاهرة ستستجيب في حدود قد قُدِرت سلفًا، بمعنى آخر: سوف تُبقي على القيادات المؤثرة التي تمتلك قاعدة جماهيرية عريضة، إلا إذا تعهدت هذه القيادات بعدم مزاولة العمل السياسي لمدة زمنية ما، هذا (إذا ظل السيسي على رأس القيادة في مصر حتى نهاية العام الجاري).
السياسة المُتاحة في ظل اللاممكن
هكذا تبدو السياسة في ظل اللاممكن، الناتج عن ضيق الأفق لنُظم المنطقه العربية التي لا تملك مشروعًا سياسًا محليًا كان، أو إقليميًا، كل انتكاساته مبررة ليس فيها مساحة ربط بين الراعي والرعية سوى الشّنَف والوَصَب، مما أفرز مواطنًا مُمزق الحس (الوطني)، نُظمًا مهدرة الأوراق، لا تُجيد سوى الجري في سباق التبعيه، ليس لديها أدنى شهية للعب دور إستراتيجي كفاعل لا مفعول به أول وثان، وأضاعت هيبتها منذ أن صمتت متفرجة، ومشاركة الإطاحة بصدام حسين وسقوط العراق في وهدة التقسيم، مرورًا بالصمت على سيطرة طهران على عدة عواصم عربية والتقارب مع الكيان الإسرائيلي على حساب القضية المركزية الفلسطينية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست