رميناك في نار عمان.. حتى احترقت
أريناك غدر العروبة، حتى كفرت..
في سنوات الإرهاب المبكرة، الألفينات الصغيرة، انطلقت الثقافة الجديدة إعلاميًا، وتركز الجهد حول القادة المغررين (بكسرة تحت الراء)، المجندين للشباب القادم من القطب الإسلامي، وانطلقت الدراسات لكشف مسارات التمويل، التنقل، السلاح، الخلايا النائمة التي تزرعها القاعدة.
وفي خضم الفزع العالمي، تكشفت حقيقة الخطر الأخرى.
لم يدر بخلد أحد آنذاك وكل أصابع الاتهام موجهة نحو المجتمعات الإسلامية، أن الشباب الغربي قد يكون أيضًا مصدرًا للإرهاب، وأن إرهابيّ اليوم كائن اجتماعي بالأمس – على حد تعبير سكوت آتران – يتأثر بالمحيط والقيم الاجتماعية التي نألفها جميعًا.
ثم كشفت عملية كريفس عن شبكة من المسلمين البريطانيين ممن سبق واختلطوا بالمجتمع وعاشوا حياة روتينية، أعضاء طبيعيون.
بحلول الألفية الخامسة، باتت الدراسات الموجهة نحو تفكيك سيكولوجية المغرر بهم أكثر تأثيرًا، واتحدت مجهودات علماء النفس للبحث عن إجابة شافية للسؤال: ما الذي حولهم إلى قتلة محتملين؟
تونس ألفان وخمسة عشرة.
إثر عمليات إرهابية متتالية، لا المجتمع ولا الإعلام ولا الساسة بقادرين على تجاوز ذهنية “القادة” والبحث عمن رمى الصنارة المستهلكة منذ العام ألفين واثنين.
ولا يبدو أن فكرة إنقاذ النفوس من التقاط الطعم بقادرة على أن تتمتع بنفس الاهتمام المولى للصياد.
والأجدر أن لا نوجه لومًا، فالجميع ضحايا ثقافة نفسية عاجزة عن توفير ما يتلاءم مع الواقع المجتمعي، وضحالة البرامج والمؤلفات أو المقالات الداعية إلى عقل جديد، واقٍ وبنّاء يملأ ثغرات الوعي الصحي النفسي ويخوض حملات مضادة لدفع الخطر القادم.
حالة من الخلط والتشوش تسيطر على العقل العربي إزاء الأزمات المماثلة، ولا قدرة لميله إلى الماورائيات والتعاليم الدينية على إنقاذه من دائرة الذعر المتملك أمام هشاشة نفسية واضحة وقيادة إعلامية ترويعية ظاهرًا، هزيلة باطنًا.
الإعلام طرف القضية الأهم والمسؤول الأول عن نقل فظاعات الخطاب السياسي العدمي باختياره ضيوفًا محددين ذوي منطق متشنج ورؤى سوداوية وتغليب حضورهم في أوقات الذروة لتبرز أحداث ما بعد الثورة بالمأساوية المطلوبة لإنتاج بكائيات هرب الزعيم، والمسير بوعي الشعب في جنازة متواصلة نؤبن على أرضها أحلام الوطن.
هرب الزعيم.. ولا فرصة لنا لملء فراغ منصبه، ولا إنقاذ البلاد من كارثة رحيله، فانطلق أبناؤه البارون يمزقون أعين الشعب انتقامًا لذات الأب المقدسة.
عقدة “أوديب” والضحية “أنت”، وبات المنتوج الإعلامي ضالاً مضلاً بائسًا، يريكم فجائع الفقد وخسائر الوطن. فتاريخنا كله محنة. وأيامنا كلها كربلاء.
والشاب التونسي المصدوم يتلقى بعقله الباطن كل هذا، ويبدو الأمر في ذهنه بالتكامل المطلوب لينطلق سيناريو البناء لفرد عنيف محتمل.
من ثم تنطلق بعض البرمجات المهتمة بقضايا البلد المستعجلة، فيكون الطرح هزيلاً سطحيًا، مجرد تأكيد على تفشي الظاهرة وعلاقتها بما بعد الثورة من انفلاتات أمنية و”التزام ديني”. أوديب من جديد.
Emino شاب تونسي متحرر، جدا، مغني راب معروف وميسور ماديًا، يتعرض لحكم قضائي يقضي بسجنه على إثر المشاركة في عمل موسيقي استعمل فيه لفظ: “كلاب” لوصف رجال الشرطة. أطلق سراحه إثر قضاء المدة. من ثم اختار مبايعة أبي بكر البغدادي كوجهة.
مادة إعلامية دسمة، اختارت بعض وسائل الإعلام التونسية أن تتناولها لمزيد التأكيد على وجود استقطاب للشباب من قبل تنظيم الدولة طارحة نظريتين فندت إحداهما من قبل شركائه في القضية الذين قضوا فترة السجن مجتمعين في زنزانة واحدة وهي: حصلت له عملية ردكلة داخل السجن.
أما النظرية الثانية فهي المحببة إلى قلوب صناع الصوت والصورة: “التزامه “عرف عن emino إثر قضاء المدة القضائية اللازمة مواظبته على الصلاة وتغير في شكله وطريقة عيشه أكدها كل معارفه، وطرح الأمر نظرية جدية هامة تفسر أسباب انضمامه لتنظيم الدولة، من غير محاولة التطرق حتى إلى تأثير ما اعتبره هو ظلمًا سلط عليه من قبل القضاء الممثل للدولة.
ولا حتى مجرد التلميح إلى أن الشعور بذُلٍّ أو قمعٍ واقعيْن وإن كانا وهميين لا شك سيضعف الإحساس بالانتماء والمواطنة، وأن ميدان العنف قد يمثل في الأثناء محورًا هامًا وخصبًا لشريحة الأشخاص الذين أثرت فيهم عوامل داخلية أو خارجية تكونت منها تجارب سلبية حولتهم إلى نماذج اجتماعية منفصلة.
قضية emino ليست إلا مثالاً للطرح الإعلامي العقيم الموجه نحو خدمة الأجندات لا الوطن. ويبقى شباب كثر مثل EMINO وغيره لقمة سائغة للإرهاب، ويبقى ذعر الأهل مستمرًا، بلا سبب واضح.
والكل يشاهد، ولا يحرك ساكنًا للإنقاذ.
تركناك في شمس سيناء وحدك..
يبدو أن تونس؛ الدولة، الإعلام، المجتمع لم تر بعد أن كل فرد من مواطنيها مجموعة من الأنماط السلوكية التي يمكن ملاحظة تطورها والتنبؤ بمصيرها والتحكم فيه وحمايته، وأن كل شاب على هذه الأرض التي تكثر فيها المعضلات الاقتصادية والاجتماعية لا بد مكبل بتأثيرات الثلاثة السابق ذكرهم وهم يتحملون نتيجة تأثيرهم بالكامل سواء كانت إيجابية أم سلبية.
إن مجتمعا غير فاعل ينتظر من شاب عاطل منبوذ على أرض يحرم فيها الحلم والفرح برعاية الصورة، أن لا ينقاد بأية وسيلة لتعزيز قيمته الذاتية أو التخلص من معاناته ولو بالخروج عن الفطرة السليمة التي نولد عليها جميعًا، مجتمع بدائي المنطق، تنقصه زاوية النفس وعلومها، وأن لا نرى في الإرهاب عملية انتحار مشفوعة بمسمى ديني يحفظ لضحاياها صفة الشجاعة، مصيبة.
وقد أجمعت الدراسات على أن السلوك الإرهابي صراع قائم بين “هو” و”أنا”، فإذا نجحت الأنا في مساعيها نحو اتزان معيشي ونفسي يحفظ الكرامة ويصون الذات اتزن السلوك وعاش الفرد متكيفًا مع البيئة المحيطة، شاعرًا بجدوى المواطنة ساعيًا للحفاظ على صفتها. تعددت الدراسات والاتجاهات والنظريات التي ترجمت العوامل النفسية للشخصية الإرهابية المتوقعة وحددت اللحظة الفاصلة التي ينهار فيها كل شيء بين الحياة العادية ودوامة العنف، معرفيًا، سلوكيًا، ذاتيًا، نفسيًا.
وما لم يعترف الجمع بقصوره في التحليل والأخذ بالأسباب وتفعيل أساليب الوقاية العلاجية ومنها إصلاح حال الناس وإتاحة فرص الاختيار والفعل وتصدير خطاب حالم متفائل يأخذ بيد القلوب الشابة نحو التطور الإيجابي المأمول، فسنبقى مدانين في وضعية المجرم الحقيقي، ويبقى المتهم ضحية !
ضحية وطن يدفعه نحو الزاوية، من ثم يرفضه.
أنادي عليك أبا خالد، وأعرف أني أنادي بواد..
وأعرف أنك لن تستجيب..
وأن الخوارق ليست تعاد..
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست