أجيال مختلفة تنظر بعينٍ مُترقبة مُتمنية تبديل الأدوار فِيما بينها من شاب يشعر بالسَّأم والملل في حياةٍ لا جديد فيها وأيام مُكررة الأحداث، وآخر يرتدي ملابس رسمية يُهرول مُسرعًا إلى عَملِه يحتاج لعدد ساعات أكبر كي يُنجز ما هو مطلوب منه، حتى يكون الطريق ملقاهم يرى كُلٌّ منهم نفسه وراحته في حال الآخر، فهذا يُريد حياة ذات جَدوى ومنفعة والثاني يريد العودة إلى حياة الراحة والكسل.
هذة المشاهد نراها باستمرار في عَالمِنا الآن، تنتهي كُل مَرحلة من مراحل الدنيا دُونَ استمتاع حقيقي بكُل ما فيها فنندم على ما فاتَ ومضى.
كثير منا يلجأ أثناء مَرحلِة الشَّباب والحماس والرَّغبة في العطاء والحيوية المُتهورة أحيانًا إلى مُنافسة البقية في السَّعي لتطوير ذاته مِن لُغة أو شهادات جانبية إلى جانب دراسته الأساسية أو موهبة … إلخ، يَأْمل في المزيد قبل فوات الأوان حتى يصبح مُؤهلًا وذا خبرة للعمل فيتحقق أمام عينيه نموذج هذا المسؤول الرفيع صاحب الملبس الرسمي في نفسه هو كما بات يحلم ويتمنَّى.
ولكن في ذات اللحظة هذا القُدوة يتمنى لو انتهت كافَّة الأعباء والمسؤوليات من عليه وعاد ليقضي ولو ليلة واحدة ينعم بالهدوء مع أسرته وأهله كالسابق فأصبح مشغول البَال دائمًا بالحفاظ على ذاك المنصب الذي طالما كان شغوفًا للوصول إليه.
أكثر ما قد يُصيب المرء بالصدمةِ هو فُقدان ما يُحِبه أو ضياع ما يتمنَّاه أو ما كان قد وصل إليه بعد إرهاق ومشقة كَبِيرين، فتقف حياته المُتسارعةُ فجأة ويتجمد العقلُ وتنهار الروحُ غير مُدركةٍ كيف حدث ذلك ومتى ولماذا؟ وتبدأ النفس بالتَّساؤل المُتخبط: ماذا فعلت وماذا جنيت بفعلتي سوى السماح للزمان بأن أُسرق دون أن أدري.
مُنذ هذه اللحظة وفقط يعود كُل شيءٍ إلى أصله، إلى مساره الطبيعي، يرجع القطار ليسير في الطريق الصحيح بسُرعتِه المُلائمة دُونَ زيادةِ أو نقصان، ويبدأ المرء في استعادة الحياة وإعادة التفكير في طريقة العيش وتقييم الأيام ويكون الاعتراف:
«إن الواحد منا يظنّ أن معرفة قيمة الوقت ومحاولة استغلاله تتأتى بتسريع إيقاع الحياة، وهذا ليس صحيحًا؛ وإنما استغلال الوقت يأتي من التخطيط الأمثل للاستفادة منه (1)».
وبالتالي يتعلم أن الأمر لم يعد كما كان يَعتقد قديمًا بالسعي الضخم وراء كُل ما هو جيد ومفيد ومُعَلِم دُونَ معرفة واعية أهذا مُلائم لمُيولِه وطبيعة ما يُفكر به وقُدراِته؟ أم لمُجرد ألا يفوته شيءٌ مِما يدور حوله ويترقى ليصبح الأول في مجاله دُونَ مُراعاة لحياته وسلامه الداخلي وتناغم نبضات قلبه مع السعادة الحقة والرضا.
«ليست السرعة كُلها نشاطًا، قد يُسرع الكسلان ضيقًا بالعمل وشوقًا إلى الكسل (2)».
بداية جديدة بعد تجربة سلبية علمته أن الدُنيا بترتيبٍ وتوقيت مُخطط له ومَحسوب، ليس الزمانُ عدوًّا كما يتغنى البعض بذلك، لن يسرقك الزمانُ ما لم تُكافح أنت وتُسارع لسرقته واختطافه، الزمانُ صديقٌ وفيّ مع من يحترم خِصاله وصِفاته ويأمن شرور نفسه التي وإن ظهرت تتحد مع مصائب الزمن فتُطلِق أنت بيديك لهما العنان ولا تَفيق إلا على كارثةٍ لم تُلق لها بالًا تُوقِف حركتك كرسالة منبه لك كي تُعيد النظر.
اعتقاد كُنت أؤمن به كثيرًا وهو كراهية الروتين والنمط والقاعدة والأصل الجامد والعادة المُعيقة والتقليد المثبط للعزيمة كما يَظهر لعيني دائمًا وأن منها أشياء سهلة وبسيطة تُحققها في أي مرحلة بحياتك لكن أن تُصبح مُخترعًا وعَالِمًا مُؤثِرًا في حياة جمع كبير وضخم من البشرية ليس بالشيء الهين يستحق كُل تضحيةٍ حتى ولو كان على حساب الحياة الشخصية وهدوء النفس، فلماذا تكون إنسانًا عاديًّا يأكل ويشرب يتعلم ليحصل على شهادة وهمية ثم يتزوج دُونَ حب أو تقدير لمن يرغب في مشاركتها الحياة وينجب أطفالًا ليصبحوا مثله عاديين أبناء شخص عادي.
ولكن خاب الاعتقاد وبدا الأمر أكثر عُمقًا من ذلك، أن تكون سعيدًا في حياتك مع عائلتك رحيمًا ليس بالأمر السهل، أن تصير مُتميزًا في دراستك دُونَ ضغطٍ أو ضرر بجهازك العصبي ونفسيتك ودُونَ فقد لمتعة العِلم ذاته بعيدًا عن مُجرد المُنافسة والتَفوق على الآخرين أمر في غاية الصعوبة خاصة في مُجتمعنا الذي بات لا يَعترف سوى بالمَظهر، أن تكون مُبدعًا في وظيفة يُلقَّبها عقيمو الفكر والمنطق بالروتينية عديمة الفائدة والأهمية وتُعيد تنظيم العمل بها بأسلوب جديد في إدارته يُحسّن من الخدمة المُقَدمة للجمهور تسهيلًا لهم وعليهم أمر في غاية التعقيد والتحدي، أن تكون أبًا حنونًا وأن تكوني أمًا واعية نعمة لا يُدركها الكثيرون.
أسلوب العصر في التعامل مع أساسيات الحياة الاجتماعية والتي هي في حقيقتها فطرة الإنسان الكامنة بداخله هي ما أفسدته وجعلت منه روتينًا يَصْعُب تحمله يتم النفور منه حتى لو كان في مسألةٍ هامةٍ ضروريةٍ في حياتنا.
ليست هذه دعوة للكسل وقتل الطموح ولكن دعوى للتوازن حتى تُحقِق الراحةَ والسكون.
«لا تقل: ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن وإنما قل: فاقصد إلى قمم الأشياء تُدركها تجري الرياح كما رادت لها السفن».
تستطيع تكوين حياة اجتماعية هادئة ومُحبة وفي ذات الوقت تُحقِق ما تطمح إليه وما تحلم به ولكن الفكرة في اختيار التوقيت المناسب لكُل شيء وأسلوب إدراكه وتحقيقه وإعادة النظر فيه جيدًا، هل تتمناه حقًا أم تتصنع وهم التمني بداخلك حتى تتجنب المعنى السلبي لـ (ألهذا جئت .. وفقط ؟!).
قد يصل ذاك الشاب إلى مُبتغاه لكن في وقت ما سيمر بمثل من أراد أن يكون في مكانه بائسًا وتعيسًا لا يشعر بقيمة ما يفعله وكل ما يَجنِيه التوتر والإرهاق الروحي والجسدي والضغط، فيتمنى لو يستطيع الهروب إلى الوراء قليلًا.
تَعلَّم، لا تتعجل الأمور وضع كُل شيءٍ في نِصابه الصحيح، الفرصة تَسعى أنت إليها لكن لا ترتمي بأحضانها دُونَ وعي أو تقدير مناسبة ذلك لروحك وقلبك وسلامتهم.
أُدرك مدى صُعوبة تحقيق ذلك في هذا العَالم المُتسارع كُل لحظة، ولكن ألم تُرِد أن تكون قدوةً وصاحب قضية وفكر رائد؟! لم لا تكون مُبدعًا في النظام والأعمال الأساسية التي بخرابها يخرب أساس الأمم وتنهار الحضارات. أرِهم كيف تستطيع تحويل الأسلوب لآخر أكثر حيوية فيسمو الضروري دُونَ فُقدانه أو تَجنُبه فنندم مستقبلًا.
ولا نخفي بالًا أن هُناك بشرًا معنا على ذات الكوكب بدأوا في هذا الأمر منذ زمن فيمكن لك أن تهتدي بهم، وسأرشح لك مجموعة من الحلقات لتفاصيل حياتهم البسيطة المُلهمة.
قد يَبدو ما ستراه مُجرد إعلان عن القيادة الآمنة تجنبًا للحوادث ولكن لِم لا نتخذه منهجًا لتجنب حوادث الدنيا وإرهاقها التي باتت البشرية جمعاء غارقة في ظُلماتها.
نِهاية الأمر، تَصنُع الجنون أحيانًا قد يقود للمُحافظة على العقل في عَالَم يتَصنَع المنطق فيهوى ناحية الجنون الحقيقي، تشبث بالأمل والطموح للأفضل لكن فيما تُريده فعلًا لا من أجل مُسمى أو لقب أو شهرة زائفة، حتى لو طالت الخُطوات وطال الطريق ليس معناه أنك لا تتقدم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست