نواصل بقية الملاحظات حول مسودة تعديل الدستور الجزائري:
5- في ما يخص مسألة استقلالية السلطة القضائية، أعتقد أن السلطة القضائية يجب أن تحظى بالاستقلالية والعلوية المطلقة على باقي السلطات، فرئيس الجمهورية يجب أن يكون تحت السلطة القضائية لا فوقها أو موازيا لها.
وهذا هو المعمول به الفقه السياسي الرشيد قديمًا وحديثًا، وفي أغلب الدول الديمقراطية أو السائرة في طريق التحول الديمقراطي، ففي أمريكا يصادق على أعلى هيئة قضائية في مجلس الشيوخ، ومثله في بريطانيا وسويسرا وألمانيا… فهذه الأنظمة تحرص على استقلالية أعلى هيئة قضائية فيها، ولهذا لا نتعجب عندما يقوم قاض بالحكم بعدم دستورية أمر رئاسي، أو تتحرك النيابة العامة ضد أي مسؤول تثار حوله شبهات فساد.
إلا أن المسودة أبقت وكرست تبعية السلطة القضائية للسلطة التنفيذية، سواء بالإبقاء على الوضع السابق أو باقتراح صلاحيات جديدة تزيد من ارتهان السلطة القضائية في يد الرئيس، ويظهر ذلك في ما يلي:
– الإبقاء على رئاسة رئيس الجمهورية للمجلس الأعلى للقضاء وتعيينه لبعض أعضائه.
– تعيين الرئيس لقضاة الجمهورية.
– تعيين رئيس مجلس المحاسبة، وهو سلطة رقابية قضائية بعدية على المال العام (المادة 208). هنا نتساءل عن فعالية دور المجلس؟
وسنركز ملاحظاتنا في هذا السياق على أهم مؤسستين قضائيتين هما: المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية.
أ- المجلس الأعلى للقضاء:
فيما يخص المجلس الأعلى للقضاء بحسب المادة 187 يتشكل من: «رئيس المحكمة العليا نائبا للرئيس، رئيس مجلس الدولة، و15 قاضيا ينتخبون من نظرائهم، ممثلين 2 عن نقابات القضاة، ست 6 شخصيات خارج سلك القضاء يختارون لكفاءتهم: 2 يعينهم رئيس الجمهورية، 2 يختارهم رئيس المجلس الشعبي الوطني، 2 رئيس مجلس الأمة، رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان». وهنا نسجل الملاحظات التالية:
1- الرئيس هو من يرأس المجلس الأعلى للقضاء.
2- اقترحت المسودة عضوية رئيس مجلس حقوق الإنسان ضمن المجلس الأعلى للقضاء، وهو معين من طرف رئيس الجمهورية.
3- اقترحت المسودة أن تؤول نيابة رئاسة المجلس الأعلى للقضاء إلى الرئيس الأول للمحكمة العليا الذي يعينه رئيس الجمهورية.
4- يختار الرئيس عضوين من الكفاءات خارج سلك القضاء.
5- أما الآلية الانتخابية الوحيدة فهي مخصصة لـ«15 قاضيا ينتخبون من نظرائهم» علما أنهم في الأصل أن القضاة يعينون من طرف رئيس الجمهورية فأين هي الاستقلالية حينئذ؟
ب- المحكمة الدستورية:
وفيما يخص المحكمة الدستورية نصت المادة 194 على ما يلي: «تتكون المحكمة الدستورية من 12 عضوا، 4 أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية، 2 عضوان منتخبان من المحكمة العليا، و2 عضوان منتخبان من مجلس الدولة، 2 يختارهم رئيس المجلس الشعبي الوطني، 2 رئيس مجلس الأمة لا يمتلكان الصفة البرلمانية أو الحزبية». وهنا نسجل الملاحظات التالية:
– اقترحت المسودة أن يعيّن رئيس الجمهورية أربعة أعضاء في المحكمة الدستورية من بينهم رئيس المحكمة لعهدة مدتها 6 سنوات.
– اقترحت المسودة أن يقوم رئيسا غرفتي البرلمان (السلطة التشريعية) كل منهما بتعيين عضوين لا يتمتعان بالصفة البرلمانية وغير متحزبين ليكونوا أعضاء في المحكمة الدستورية.
– من 12 عضوا تحتكر السلطة التنفيذية والتشريعية سلطة تعيين 8 أعضاء (الثلثين). فأين هي استقلالية العدالة؟
– وهنا نتساءل: كيف تعطي هذه الصلاحية للسلطة التشريعية ولمن هم متحزبين أصلا؟ وتعينهما يخضع للأغلبية البرلمانية؟ وكذلك فإن آلية التعيين ترتبط دوما بالولاء خصوصا وأن المعيِّن ذو انتماء حزبي؟ وأين هو معيار الكفاءة في هذا النوع من التعيين؟
لماذا يتم تعيين أعضاء المحكمة الدستورية بطريقة فسيفسائية وربطها دوما بالسلطة التنفيذية والتشريعية، وعدم إخضاعها لمعيار التخصص والكفاءة وعن طريق الانتخاب من النظراء ثم عرضها على البرلمان للتصويت.
وهذا ما يبين بوضوح بقاء هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية بوجه أو بآخر.
ولهذا من الأنسب في هذا السياق اقتراح: أن تكون عضوية الهيئات القضائية العليا منتخبة من نظرائها ثم يتم عرضها على التصويت من طرف البرلمان، كما هو الحال عند الدول الديمقراطية، مع التخلي عن صفة القاضي الأعلى للبلاد.
6- من أغرب ما جاءت به هذه المسودة في باب استقلالية السلطة القضائية، المادة 169 وهي مادة جديدة تنص على ما يلي:
1- «القضاء مستقل، ويضمن رئيس الجمهورية هذه الاستقلالية». وهنا نتساءل:
أ- فكيف يكون القضاء مستقلا وهو تحت ضمانة رئيس السلطة التنفيذية؟
ب- هل استقلالية القضاء يضمنها الرئيس أم النص الدستوري التأسيسي، المعزز بمؤسسات رقابية سيدة ومستقلة؟
7- لم تنص مسودة الدستور على الإجراءات الرقابية والقضائية الكفيلة بحماية الدستور من الاختراقات المتكررة للأفراد أو المؤسسات أو من طرف السلطة التنفيذية والتشريعية، لأن النص الدستوري لا يكتسب قيمته من الصياغة وجَوْدة الأحكام التي يتضمنها، وإنما عن طريق الآليات الرقابية المستقلة التي تحصنه من أي شطط، ومن خلال تجريم الاعتداء عليه ضمن قانون العقوبات، وهذا يؤكد لنا أهمية استقلالية السلطة القضائية وعلويتها حتى يتأتى لها أن تمارس مهامها الرقابية سواء على دستورية القوانين أو الاختراقات الدستورية، فكيف لمجلس المحاسبة (وهو سلطة قضائية رقابية) أن يراقب المال العام ورئيسه يعين من طرف رئيس الجمهورية؟ وكيف للأجهزة القضائية أن تتحرك والسلطة التنفيذية تحتكر سلطة تعيين القضاة ورئاسة وعضوية المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية؟
8- اقترحت المسودة عند شغور منصب الرئاسة أو حصول المانع للرئيس أو وفاته أن يتولى نائب الرئيس رئاسة الدولة. فقد ورد في المادة 98 الفقرة 03:
3-يتولى نائب رئيس الجمهورية المعين رئاسة الدولة بالنيابة لمدة أقصاها خمسة وأربعون (45) يوما ويمارس صلاحياته مع مراعاة أحكام المادة 100 من الدستور.
4-في حالة عدم تعيين نائب رئيس الجمهورية، يتولى رئيس مجلس الأمة رئاسة الدولة بالنيابة… (نفس الأحكام السابقة).
وجاء في المادة السابقة أيضا:
7-يتولى نائب رئيس الجمهورية رئيس الدولة بالنيابة، مهام رئيس الجمهورية لباقي مدة العهدة الرئاسية. لا يمكنه تعيين نائب رئيس.
وهنا لنا أن نتساءل:
1- ما هي الشرعية التي يستند عليها نائب الرئيس لمزاولة الحكم فيما تبقى من العهدة الرئاسية؟ هل يحكم باسم الشعب الذي لم ينتخبه؟ أم باسم الرئيس الذي عينه؟
2- إذا كان الشعب قد فوّض الرئيس لأداء مهامه الرئاسية، هل يمكن للرئيس أن يفوض هذا التفويض لمن ليس منتخبا؟
3- بأي قاعدة أو مسوغ أو منطق قانوني أو سياسي؛ أعطت اللجنة الأولوية للمعين على المنتخب في رئاسة الدولة؟
4- هل يمكن أن تدار الدولة في ظرف استثنائي كهذا برئيس غير شرعي؟ وما تبعات ذلك على المستوى الداخلي والدولي؟
5- منصب نائب الرئيس هو ميزة تتميز بها النظم الرئاسية ويتم انتخابه مع الرئيس أثناء الحملة الانتخابية، أما النظام الذي أقرته المسودة فهو النظام شبه الرئاسي الذي لا يوجد فيه هذا المنصب؟
6- هذه الصلاحية المضافة إلى رئيس الجمهورية تناقض المبدأ الديمقراطي القائم على الانتخاب والتفويض الشعبي، لأنها تقوم على التعيين في منصب هو من الاختصاص الحصري للشعب صاحبِ السيادة.
9- قامت الديباجة باقتراح دسترة الاتفاقيات الدولية والإقليمية كاتفاقيات الاتحاد الأفريقي لمنع الفساد ومكافحته، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، والاتفاقية العربية لمكافحة الفساد، وهذا يفضي إلى إشكال دستوري وهو: تعارض بعض بنود هذه الاتفاقات مع الدستور، خاصة مع المواد الصماء التي هي محكمةٌ على غيرها من القوانين، ولا يُحكم غيرها عليها. وبناء عليه يمكن لأي طرف دولي مقاضاة الدولة الجزائرية بناء على طبيعة دستورها الذي ينص على هذه الاتفاقات، وهذا فيه رهن للسيادة الوطنية واستقلالية القرار الوطني والأمن القانوني للدولة، خاصة إذا لم تقيد بضرورة تكييفها مع قوانين الجمهورية أو خضوعها للرقابة الدستورية المسبقة، لذا يجب أن تبقى هذه الاتفاقات في إطار العلاقات والتفاهمات الدولية، ولا يجب على المؤسس الدستوري أن يقيد نفسه بها بإطلاق.
10- أكدت اللجنة في ديباجتها وأثناء عرض الأسباب على ضرورة دسترة الاتفاقيات الدولية والإقليمية، وذلك باقتراحها لمادة دستورية جديدة، إلا أنها لم تشرْ في الديباجة إلى بيان أول نوفمبر كأهم وثيقة تأسيسية لمرحلتين هامتين في تاريخ الجزائر هما: الثورة التحريرية الكبرى، ومرحلة بناء الدولة المستقلة، واكتفت بذكر عبارة «وكان أول نوفمبر1954 نقطة تحول فاصلة في تقرير مصيرها» في الفقرة الثالثة من الديباجة. وهنا لنا أن نتساءل: هل دسترة الاتفاقيات الدولية والإقليمية أهم من دسترة بيان أول نوفمبر الذي يمثل مرجعية تأسيسية للدولة الجزائرية المستقلة؟
وفي معرض ردها على عدم إدراج بيان أول نوفمبر في مستودة الدستور، تحججت اللجنة -التي ينتمي إلى عضويتها بعض أبناء الشهداء- بعدم التنصيص عليه في الدساتير السابقة، علما أن المادة الجديدة المقترحة من قِبَلِهَا وهي: دسترة الاتفاقات الدولية والإقليمية ليست مذكورة كذلك في الدساتير السابقة لا تصريحا ولا تلميحا؟ بخلاف بيان أول نوفمبر الذي أشير إليه في العديد من الدساتير، لكن دون دسترته صراحة أو جعله من المواد الصماء، وتعليل اللجنة هذا يبعث على الاستغراب!
….يتبع
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست