«طيري طيري يا عصفورة أنا مثلك حلوة صغيورة».. لازلت أتذكرني وأنا في الرابعة عمري أغنيها بروح طفلة مقبلة على الحياة تغرد عصافير قلبها كلما سمعت نغم ملاكي، ملاك الطرب العربي، التي علمتني أن «أغني للحب» وأن «لا أزعل على شي»، التي لقنتني «كلمات ليست كالكلمات» واحتلت «مطرحًا بقلبي»، لكن للأسف «سقط القناع» عن ملاكي وقصت حقيقته أجنحة قلبي التي لطالما رفرفت على إيقاع أغنياته.
فمن الصعب علي أن أتقبل إطراء ماجدة الرومي، التي غنت للحب والحرية والسلام، على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بقولها: «السيسي إنسان صادق.. رأيته مرتين، ووجهه يوحي لي بالطيبة المصرية والصدق والصلاة. الله أعطاه القبول» أيكون الله قد أعطاه القبول لسجنه شبابًا بذلوا عمرهم للدفاع عن حقهم في العيش الكريم؟ أو ربما اختاره ليذيقهم من العذاب الأخروي باحتجازهم قسريًا وتعذيبهم دون محاكمات عادلة؟ فحسب منظمة «كوميتي فورتجستيس» إن 37 من أصل 43 معتقلًا تعرضوا للإخفاء القسري، 14 من أصل 43 معتقلًا تعرضوا للتعذيب عقب اعتقالهم، كما تم توثيق 14 إهمالًا طبيًا في أماكن الاحتجاز، و16 اعتقالًا تعسفيًا. فهل سجن العقرب مطهر دانتي الموعود الذي سيطهرهم من ذنوبهم وخطاياهم لكي يعدهم إلى الفردوس المنشود؟
وفي مقطع غزلي بدكتاتور عربي آخر صرحت ماجدة الرومي: «صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، أنتم تضمون إلى قلبكم أولادنا القادمين من العالم العربي كله، وتضمون إلى قلبكم مستقبل الوطن العربي، صاحب السمو، أنتم تمدون يدكم لتعمروا وتبنوا وترفعوا البناء، في الوقت الذي نرى فيه مئات الأيادي في العالم العربي تسعى إلى التدمير والتخريب. أيضم محمد بن راشد أطفال العالم العربي إلى قلبه، بينما يهرب أطفاله شمسة ولطيفة وزوجته هيا من جنته المسيجة بأسوار القسوة والطغيان، أيبني محمد بن راشد العالم العربي بتمويل الانقلابات وإفشال الثورات وتجويع أطفال اليمن وحصار دولة عربية أخرى؟
«قوم تحدى الظلم تمرد كسّر هالصمت اللي فيك..
كيف بعدك ساكت؟ أرضك عم تندهلك.. ثورة»
هكذا ناديتنا يا ماجدة بصوتك الملائكي، أشعلتي أفئدتنا بنار الغضب من الظالمين، وأيقظتي حماستنا لتلبية نداء ألأرض والوطن الذي تصرخ رياحه، وتكتب رماله طلبات النجدة من حكام أعماهم غرورهم وطمعهم في السلطة عن مطالب شعوبهم. كما أعماك الخوف والإذعان، وقد أصبحت كلماتك ليست كالكلمات التي عهدناها منك، طيبة صادقة وملائكية، فقد أضحت كلمات ملونة بالتملق، والسذاجة، والإذعان.
هذا المقال مكتوب بمداد خيبة أمل محب في قدوته وملاكه، فربما يجده بعضكم يفتقر للمهنية، وربما يجده البعض الآخر تهكميًا مشخصنا. لكن لا تلومني بل ألقوا اللوم على الحب، الحب والتقدير الذي كننته لامرأة ألهمتني، فغدا صوتها موسيقى خلفية لجميع ذكريات حياتي. كانت هي أول من لقنتني كلمات محمود درويش عندما غنت سقط القناع عن القناع، لكنني لم أخل يومًا أنها بدورها كانت ترتدي قناعًا، قناعًا سيسقط يومًا ما كما سقطت أقنعة العديد من محترفي الفن. عندما قرأت وصف جبران خليل جبران للفنانين في العواصف حيث يقول: «إن المغنيين والشعراء هم حملة المباخر، بل هم العبيد» قلت: كلهم إلا أنت. كم كذبت حين ظننت أنك استثناء. أنت تشبهينهم كثيرًا، نفس الحيادية المقيتة، نفس الأعذار الواهية، ونفس الكلمات الثعبانية التي تسمم مصداقيتكم.
سأهجرك، سأهجر موسيقاك وصوتك غدا مخلوطًا بصرخات السجناء المعذبين والأطفال الجوعى، سأهجركم كلكم فلا ملاذ لي إلا «نوتة» صوت محمود الدرويش النقية من نفاقكم، وهو يقول:
ذهب الذين تحبهم.. آه ذهبوا
فإما أن تكون أو لا تكون
فأنت الآن.. حرُ وحرٌ وحرُ.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست