من المؤكد أن العرب سئموا وضعهم الحضاري المنهار جملة وتفصيلًا. عندما يتجول الإنسان في أغلب التجمعات السكنية في المنطقة العربية، يرى الزحام، والفوضى، والتلوث، والضوضاء، والقبح، والعشوائية، والضغط النفسي الشديد، يرى الانهيار في كل الجوانب: الاقتصادية في الفقر المترسخ والبطالة المتفشية، والسياسية في فساد الحكام والامتيازات الصارخة لأصحاب السلطة، والاجتماعية في الطبقية الصارخة والعلاقات المتوترة وفقدان الثقة والكراهية بين الناس، والأمنية في غياب القانون، والنظافية في القمامة التي لا تخلو منها شوارع البلاد، والأخلاقية في عدوانية الناس ووقاحتهم المباشرة، والمعرفية في نقص المعلومات الأساسية عن العالم الطبيعي والاجتماعي، وغيره من مشاهد الانهيار، حتى الحيوانات الضالة المنتشرة في الشوارع وضعها بائس، تجد القطط عمياء والكلاب عرجاء، هزيلة تعاني الجرب.

يصحو الناس في المنطقة العربية كل يوم لاستكمال هذا المشهد المؤلم، المدمِّر والمدمَّر، يسيرون وسط القمامة والزحام والفوضى والضجيج والشحاتين والبلطجية والجثث المتحللة للحيوانات الضالة. إنه مشهد الوجود المنهار لأناس فقدوا السيطرة على مسيرة حياتهم. احتياجاتهم الاقتصادية تدفعهم للتفاعل كل يوم مع هذه البيئة اللعينة دون توقف مما يعطي الاستمرارية لهذا الوجود المنهار، ونزعتهم الجنسية تدفعهم للتناسل مما يثقل كواهلهم زيادة على ثقلها ويؤبد لهذا الوجود المتأزم في الأجيال المتتابعة.

هذا المشهد الداخلي الذي يراه الإنسان العربي. أما على الصعيد الدولي، فلا وزن سياسي ولا اقتصادي لأمة يقارب تعدادها الـ450 مليون إنسان، الذي يشكلون تجمعًاا هائلًا من الغبار البشري، أراضيهم الشاسعة تعد فضاء إستراتيجيًّا تتصارع عليه الأمم الفاعلة.

يفكر الكثير منهم في أسباب هذا المشهد المنهار، ولكل نظريته الخاصة، فمنهم من يتهم التزمت الديني، ومنهم من يتهم الحكم السيئ، وآخرون يتهمون المؤامرات الخارجية ورواسب الاستعمار الأجنبي، وغيرها من النظريات المدعومة بكثير من الأدلة، ولكن علينا أن نتفق جميعًا على أن جوهر المشكلة هو مشترك بين كل الآليات المتهمة في هذه النظريات التي تحاول تفسير فشل العرب، هذا المشترك هو النقصان الحاد في الوعي العام للجماهير، الوعي الجماعي بوحدة الظروف والمصير، بحتمية التطور من أجل البقاء، بطبيعة صراع الأمم، وبالسياق العالمي الذي يوجد فيه العرب اليوم. هذا الوعي العام لم يتجاوز الكتلة الحرجة لكي ينتج منه مجتمع مدني منظم يدافع عن مصالح عموم العرب.

ما الحل؟

بالتأكيد لن نطالب الغرب والاستعمار الجديد بالكف عن استغلاله لضعفنا ولعمله على إطالة وضعنا كما هو عليه، ولن نستجدي الحكام العرب الفاسد جمعهم بالقيام بثورة على هذه الأوضاع، فهم (العدو الخارجي، وووكيله الداخلي) مستفيدون من استمرارها.

الحل يكمن في إدراك أن هناك ثلاثة مصادر تبقي العرب متخلفين، اثنان منها لا طاقة للعرب بتغييرهم، ولكن فقط يستطيعون مقاومتهم، أول مصدر هو العدو الخارجي المتمثل في الغرب واستعماره الجديد الذي يخدم مصالحه المترسخة في المنطقة، والتي تعتمد على بقاء العرب ضعفاء خاضعين منزوعين السيادة، وثاني مصدر هو الوكيل المحلي للعدو الداخلي وهم الحكام العرب الذي يريدون أن يرضوا مركز الإمبراطورية الغربية لاستمرار دعمهم لهم، وأيضًا يريدون الحفاظ على سلطتهم المطلقة والتي تتطلب أيضًا إبقاء العرب بلا حول أو قوة.

ثالث مصدر للتخلف، وهو ما في أيدي العرب تغييره، هو التخلف الفكري والسلوكي. هذا التخلف هو سبب غياب الوعي العام الذي بدوره هو سبب عدم وجود قوى سياسية منظمة تدافع عن مصالح عموم العرب، وأهمها مقاومة المصدرين الأول والثاني للتخلف أي مقاومة وتغيير نمط الحكم العربي (المدعوم داخليًّا وخارجيًّا) المدمر والانتقال إلى حكم تنموي، لكي يتمكن العرب من تحقيق هذا التغيير، عليهم أولا بالتنظيم، والتنظيم لا يجري إلا بالوصول أولًا إلى كتلة حرجة من الوعي.

على العرب العمل على نشر الوعي من خلال نشر المعلومات المقروءة والمسموعة لكي نصل بهذا الوعي إلى هذه الكتلة الحرجة التي ينتج منها تنظيمات مؤثرة تقاوم هذا الوضع. هذا العمل يجب أن يكون مكثفًا لأنه ليس فقط مجهودًا لنشر الوعي، فهو في الوقت ذاته يقاوم ويوازن ضد محاولات حثيثة لتزييف الوعي والتضليل من قبل الكيانات الخارجية والداخلية المستفيدة من هذا الوضع المنهار للعرب. إن وصل العرب لهذه الكتلة الحرجة من الوعي العام، فهم بالتأكيد وضعوا أنفسهم على طريق ذي اتجاه واحد نحو تطوير أنفسهم سياسيًّا واقتصاديًّا، وهذا أقصى ما يخشاه ويحاربه أعداء العرب، لذلك نجد المجهود عملاقًا في تزييف الوعي ومقاومة تطوره من خلال وسائل الإعلام والرقابة على الفكر وبث روح الخوف بالعصا الأمنية، وإيقاع الهزيمة في نفوس الناس لإحباطهم وتثبيط عزيمتهم على تغيير وضعهم المأساوي.

العرب يعيشون في دوامة المخرج منها عسير، ألا وهي أنهم نتاج بيئة منهارة، بنفسية وعقلية ونمط سلوكي منهارين، تجعلهم بشكل تلقائي يعيدون إنتاج هذا الانهيار بمجرد استمرارهم الطبيعي في طريقة تفكيرهم ونمط سلوكهم الذي دجنوا فيه منذ الطفولة، فيستمرون في الانهيار والتخلف طالما لم تكسر معادلة هذه الدوامة. فالإنسان يشبه بيئته ثم تنعكس صورته على بيئته وتشبهه وهكذا. الطريقة الوحيدة لكسره معادلة هذه الحلزونة السلبية هي صدمة معلوماتية وعاطفية يجب أن يمر بها العرب، تجعلهم يراجعون كل شيء تربوا عليه، وكل شيء هنا يشمل ما يعده البعض خطوطًا حمراء، كالأديان والمقدسات والتقاليد والأعراف الراسخة التي كثيرًا ما تبرر التخلف، وأعني هنا بالتخلف الاستمرار على فكرة أو فعل ثبت فشلهم بالتجربة. وهذا ما وجب على ناشري الوعي من منتجي المواد المقروءة والمسموعة بتوجيه هذه الصدمة للإنسان العربي. هذه الصدمة مؤلمة لأنها تشبه حالة شخص يستفيق من مخدر قوي لآلامه الحادة، ولكنها استفاقة ضرورية لأن البديل عنها هو الاستمرار في هذا الوضع المنهار وصولًا إلى الهلاك الكامل.

على الإنسان العربي أن ينظر في المرأة بكل شجاعة ويعترف بأنه إنسان منهار فردًا وجماعة وأنه في الأغلب يعيد إنتاج الانهيار بمجرد استمراره في طريقة حياته كما هي، عليه بأن يشكك في كل شيء يتصوره ويفعله ويتردد عن كل ما هو راسخ في ذهنه، وعليه أن يشمئز من وضعه ومن وضع عموم قومه، فيسير في الطرقات متمردًا على نفسه وجمعه، متأهبًا للتعبير عن رفضه لهذه الأوضاع وتمرده ضدها في أي فرصة تسمح بذلك.

الصراع بين الشعوب هو أمر ثابت في العالم، والشعوب التي لا تنهض مصيرها الهزيمة والاستعباد على أيدي شعوب أكثر تعقيدًا وإنتاجية. وأولى خطوات النهوض هو الوصول للكتلة الحرجة للوعي. ألم يسأم العرب وضع الهزيمة والاستعباد؟

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد