مضى على الربيع العربي عقد من الزمن، ولازالت الدول تراوح ذاتها بين الإصلاح والسعي للاستقرار، ولست في وضع المحلل حتى نلم بكل الحيثيات والدوافع التي ساهمت في انتكاسة الجماهير، ونهاية الربيع للحالة المأساوية في العديد من الدول، كانت الفكرة وردية، ومعبرة عن رغبة الناس في العبور نحو تجارب مشروعة في دولة مدنية ومجتمعات ديمقراطية، تحكمها مؤسسات ومبادئ، فكرة جاءت من الشباب، ومن هموم الواقع والتاريخ المثقل بثقافة الاستبداد والحكم الفردي، والمسار الخطي الذي رسخ فكرة الاستقرار والبقاء الدائم في السلطة، وقسم المجتمعات بين منتفع وساخط على الأوضاع، ساهمت في الربيع ثقافة الصورة، وتقنيات شبكة التواصل الاجتماعي، والإعلام الفضائي الجديد، فكرة مشروعة في إصلاح أعطاب المجتمعات، وبناء السياسة على التداول السلمي للسلطة، ولما خرجت الجماهير للساحات العمومية والفضاءات العامة، كان الإعلام المضاد يحرض ويفند أطروحة الناس، ويقلل من قيمة الخروج للتعبير عن رفضهم للسائد، والملل من التجارب التي ظلت توهم الجماهير بالرخاء، وتلعب على الوتر القومي، وتعيد إنتاج نفسها باليات تناسبها في البقاء.
فكرة الربيع العربي
الربيع العربي فكرة مفيدة في الانتقال الديمقراطي، والعبور بالعالم العربي من حكم الفرد والقلة المهيمنة إلى بناء المؤسسات، هذا العالم المغاير عن الغرب، لم يخرج علنا للتعبير عن ذاته، وإذا فكر الناس في العصيان والتمرد والخروج بشكل سلمي، غالبًا ما تكون القوة لهم بالمرصاد، كان العالم العربي مكبلًا بأغلال وأوهام، ولما صاح بصوت عال عندها امتلك الوعي الصحيح، خرج للتعبير عن ذاته وواقعه، واستحسن التغيير بالطرق السلمية، رافعًا شعارات لإصلاح الحياة السياسية والاجتماعية، ولم تكن المشاركة تفرق بين اليمين واليسار، سوى قناعات، وجماهير بدون زعامات، سوى الفكرة التي وحدت المجموع الكلي، سقط القناع عن بعض الأنظمة، سقطت بالقوة في اليمن، وليبيا، والسودان، ومصر، وتونس، وتحولت بعض البلدان للحروب التي تغذيها أطرف مختلفة، وتولدت قوى غربية، وتحول الربيع إلى خريف لم يكتمل، نهاية الربيع بالفعل بالصورة التي عاينها الناس، عودة القوى التقليدية للحكم، وتدخلات أجنبية في الحروب المشتعلة، وإخفاق الحراك الشعبي في عدة دول، تلاشت الفكرة، لكن الأفكار لا تموت، والمعركة تبقى قائمة بين العقول في معترك السياسة، تأخذ مسارًا آخر من النقد، وإعادة تصويب الممكن في السياسة والاقتصاد، هموم الدول تزداد بازدياد مصاعب الحياة، وتفاقم الأزمات، ولن تحل إلا بالعبور نحو تجربة ديمقراطية أوسع في استقلالية المؤسسات، والعمل بالقانون، وإصلاح القطاعات الحيوية، من تعليم وصحة، والضرب على أيدي المخالفين والعابثين بالقانون.
الفكرة لم تزل قائمة وكامنة في اللاشعور، ويمكن أن تطفو في كل لحظة معينة، ويسجل التاريخ خروج الجماهير للتعبير عن صوتها بطرق حضارية وسلمية، ومن اقتطف الربيع أو ساهم في تحويله عن مساره الإصلاحي، فقد حرم العالم العربي من التقدم والتطور، الربيع العربي مشروع لم يكتمل، حق الناس في المواطنة الكاملة، وحق الشعوب في بناء مجتمع مدني بدون نواقص، ودولة مدنية بمبادئها العامة، بعيدًا عن الحكم العسكري، ولأسباب متعددة سقط هذا المشروع، وبقيت الفكرة تراوح ذاتها، ولعل الأيام كفيلة بعودة الفكرة من جديد، حتى يعاد صياغة هذا العالم على خطى معقولة للعبور بالتجارب الحية في مسلسل البناء للأوطان والإنسان معًا، صيحة الجماهير في التوافق على الفكرة التي كانت خامة وذاتية وأيقظت الجماهير من سباتها، للتحول نحو العالم الموضوعي، من المنطلق الجدلي الخاص بالفيلسوف هيجل الفكرة الكاملة والمتشعبة بالمعاني، تحمل قيمة في ذاتها وتتعين في الواقع.
انبعاث الفكرة من جديد
لا تموت الأفكار وتتلاشى من الوجود، لأن العالم العربي في حاجة لإعادة تصويب الفكرة من جديدة، في طيات الفكرة كما يقول هيجل كل المعالم والمجالات التي ترفع المجتمع والإنسان معًا نحو الأفق الممكن في حياة كريمة من الرفاهية، تتطابق الفكرة مع الواقع، وتحمل الفكرة في ذاتها أسمى المعاني والدلالات في التقدم، لا نحمل المسؤولية للقوى الخارجية، ولا حتى للقوى المناهضة للإصلاح، لأن الفكرة الجديدة في العالم العربي، الحرية والتحرر، هذا العالم الذي بقي في التاريخ يصارع الاستبداد، وينكمش على ذاته في اعتبار ما يقع له يعود للقضاء والقدر، ويصبر على المحن والشدائد، غابت الحرية والإرادة الذاتية والحماية في تغيير الأوطان المكبلة بقيود السلطة الحديدية، وقيود القيم التي كانت مسالمة، وتدعو للمهادنة، تجارب الإصلاح الخاصة بالنهضة والإقلاع، كانت محدودة، ولم تلق طريقها نحو التطبيق لما كانت المجتمعات لم تزل أسيرة التخلف والصدمة الحضارية والثقافة مع الآخر، ولدت الحيرة والدهشة الممزوجة بالإعجاب والنفور، أي صدمة الحداثة الغربية التي هي وليدة الأنوار والحرية، ووليدة سعي الغرب نحو استعمار الآخر بدون نقل الأنوار وتجاربه الحية، اندهاش المثقف العربي من ازدواجية التعامل بين الداخل والخارج، ولما خرج الناس في الربيع العربي، كانت الرؤى متباينة بين الاستحسان والتقليل من النتائج، وغالبًا ما يدعم الغرب القوى المحافظة والأنماط السائدة في السياسة، حفاظًا على امتيازاته من صعود القوى الجديدة التي تطالب بالعلاقات المتوازنة المبنية على العطاء المتبادلة، الربيع العربي لم يكتمل، لكن الفكرة باقية في الأذهان، وتحول الصراع الفكري من الساحات العمومية إلى معركة أخرى للتنمية، والتغيير من الداخل من خلال الاستعانة بشبكات التواصل الاجتماعي، ودينامية الحراك الشعبي في المطالبة والتنديد، الدولة العميقة كما تسمى الآن في الأدبيات السياسية والامتيازات الخاصة، وإعادة النظر في صياغة الدساتير والقوانين، وما يتماشى والدولة المدنية، وحق الإنسان في السيادة على خيراته.
القوى المناوئة والرافضة للتغير تجد نفسها محاصرة بالفكرة، ومشروعية الإصلاح، وتقوية القوى الداعمة للتغيير، الذي يزداد بازدياد الحاجات، ورغبة الناس في التقدم بعيدًا عن سلطة الفرد الواحد، وقبضة الجماعات المهيمنة على السلطة، مخاوف الجماهير العربية كانت واضحة في قطف القوى الصامتة والمهيمنة على الحراك وللنتائج، وكانت الحركات الإسلامية، وما يسمى بالإسلام السياسي المعنى بالكلام، والقوى الرافضة لمشاركته في السلطة، حتى أن الأمر بات الآن صراعًا قديمًا في حلة جديدة، بين التيارات المحسوبة على العلمانية، وتيارات الإسلام السياسي، ولن توحد الفكرة إلا الدولة المدنية الحديثة بكل مبادئها التي تجمع الكل تحت سيادة القانون وعمل المؤسسات.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست