مناقشة قضية إفطار المسلمين على التمر اتباعًا لسنة النبي

بينما نحن جلوسٌ في مسجد أدنبرة المركزي هنا في بريطانيا منذ أيام ننتظرُ أذانَ المغرب لنبدأ في تناول الإفطار، فقد اجتمع المسلمون من جميع جنسياتهم وثقافاتهم معًا في مشهدٍ رائع ينتظر الجميعُ رفعَ الأذان، وبينما نحن منتظرين فقد جلست أتأمل منظرَ حبات التمر التي سنفطر عليها، ثم سألت صديقًا لي: تُرى لو كانت أكلة ما – كطبق المكرونة بالبشاميل مثلًا – تعرفها العربُ في المدينة، وكانت هي الوجبة المُفضلة لديهم، وطبيعي سيأكل الرسولُ مما يأكل منه قومُه، هل في هذه الحال سيكون علينا نحن المسلمين أن نفطرَ على مكرونة بالبشاميل أيضًا لنتبعَ سُنَّةَ الرسول؟ بل هل سنُحصي عددَ الحبات التي أكلها الرسولُ لنأكلَ نفسَ عدد حبات المكرونة أيضًا؟ هل سيُؤجر المسلمُ الذي يعيش في الهند، والذي يعيش هنا في بريطانيا، والذي يعيش في الصين على أكلِه نفس ما كانت تأكله العرب من 1400 عام؟

بمعنىً آخر: هل ستكون المكرونة بالبشاميل سُنَّة يُؤجر المسلمون على أكلها، ثم فيما بعد سيجدون إعجازًا في عدد حبات المكرونة بالبشاميل كما يدعون فيما يخص التمر؟ أو دعوني أسأل السؤال بشكل أوضح: هل طريقة أكل الرسول سٌنَّة سيثاب المسلمون على فعلها؟ هل أُمرنا باتباع النبي في نفس نوع الطعام الذي يأكله بل حتى في عدد ما يتناوله؟ هل هذا من الدين؟

مقامات النبي

إن القضيةَ في الحقيقة أكبر من هذا الاختزال في التمر أو في نوعية وجبة الإفطار، وإنما أحد المشكلات الكبرى في الفكر الإسلامي هي مقامات النبي التي سمّى بها صديقي الدكتور عبدالله القيسي كتابَه تحت هذا العنوان، وقد تكلم في هذا الموضوع أيضًا الفقيه المالكي القرافي واعتبرها أربع مقامات باعتبار الآثار الشرعية المترتبة عنها، وهي: مقام تصرفه بالتبليغ، وهو الوصف الغالب على سائر تصرفاته. ومقام تصرفه بالإمامة، ومقام تصرفه بالقضاء، ومقام تصرفه بالفتوى، غير أن الطاهر بن عاشور حين تكلم في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية عن مقامات النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أضاف إلى ما ذكره القرافي وغيرُه واعتبرها اثني عشر مقامًا.

ولقد جمع أستاذنا الدكتور محمد عمارة كلَّ ما وصلت إليه يدُه من نصوص أعلام العلماء بهذا الخصوص، وصل عددهم لحوالي عشرة علماء (القرافي، والدهلوي، وابن عاشور، وشلتوت، وعبد الجليل عيسى، والعوا… إلخ) في كتابه المنشور حقائق وشبهات حول السنة النبوية بل كتب دراسة مطولة أيضًا في كتابه القديم والقيم للغاية معالم المنهج الإسلامي. فالقضية إذًا تكمن في معرفتنا بطبيعة أفعال الرسول الذي نتبعه، متى يتكلم كرسولٍ؟ ومتى يتكلم كزوجٍ؟ ومتى يتكلم كولي أمر؟ ومتى يتكلم كبشر؟ ومتى يُدلي برأيِه الذي يراه من وجهة نظره؟

المشكلة أننا خلطنا مقاماته جميعًا بعضها ببعض، ولم نستطع أن نُفرِّق بين ما قاله وفَعَلَه الرسولُ كرسول، وبين ما قاله وفَعَلَه بصفته بشر وإنسان يجري عليه ما يجري علينا. ولكن العجيب في الأمر أن كلنا يعلم هذا الكلام جيدًا، ولكن للأسف حين نأتي إلى التطبيقِ العملي لما نقوله، فكأنما هو سراب بقيعة تحسبه ماءً حتى إذا ما جئته فلن تجده شيئًا.. نحن نُحسن التنظيرَ وفقط. ومن هنا كانت المشكلة، حين اعتبرنا أنَّ كلَ ما يصدر عن الرسول من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ هو سُنّة يُستحبّ اتباعها، مع أننا في الوقت نفسِه نقول النقيضَ من هذا الكلام ونعترف بأن النبيَّ بشرٌ مثله مثلنا.

هذه الازدواجية بين أفكار الشخص المسلم بعضها مع بعض، بل أضف عليها الازدواجية بين هذه الأفكار وبين الواقع العملي لتطبيقها، هي ما جعلتنا نعيش في ظلمات بعضها فوق بعض. ظلمات في التأصيل العلمي للقضية نفسها، وظلمات أخرى في إسقاطها على أرض الواقع.

ومن هنا يؤكد القرآنُ مرارًا وتكرارًا على أن الرسولَ بشرٌ لا يختلف في شيء عنا، بل أمر النبيَ بأن يقولَ هذا صراحةً قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا وقال أيضًا قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ فالفرق بيننا وبين الرسول أنه يجري عليه ما يجري علينا تمامًا غير أنه يتنزل عليه الوحي.

بل إن العجيبَ والمُلفت في هذا الأمر أنَّ الشيءَ الذي استدل به اللهُ على بشريةِ الرسول، هو الشيء الذي جئنا نحن الآن لنعتبره سُنّة ومن الدين، إنه أكل الطعام، حين أراد اللهُ أن يؤكدَ أن هذا النبيَ بشرٌ مثلنا، استدل بأنه يأكل الطعام، فقد تعجب المشركون من أكله للطعام ومشيه في الأسواق وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًاّ فأكد اللهُ على أنه بشرٌ مثلُهم وأن جميعَ الرسل السابقين هم بشر أيضًا، يأكلون مما يأكل منه الناس ويشربون مما يشربون، وأجاب عليهم وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ، وقال أيضًا متحدثًا عن باقي الرسل وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ.

أي أننا لم نخلق هؤلاء الرسول بدون جسد فلا يحتاجون لأكل الطعام، ولا خلقناهم ليكونوا خالدين، إنما هم بشر أمثالكم. بل أكبر من ذلك أيضًا حين أراد اللهُ أن يستدلَ على بشريةِ سيدنا عيسى وجريان ما يجري على الناس عليه، استدل بأكلِه الطعام وقال مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ.

انظروا إلى هذا الخطاب القرآني الذي يعتبر أكلَ الطعام صفةً بشريةً محضة، ثم نأتي نحن الآن ونعتبر أن طريقة ونوع وعدد أكل النبي هي من السنة ومن الدين! فكأنما لم نقرأ ما في كتابِ ربنا وإذا قرأنا لا نفهم، وإذا فهمنا لا نُطبق.

الإفطار على تمر

بدايةً أحب أن أقولَ أنه لا يوجد في القرآن حرفٌ واحدٌ يتحدث من قريبٍ أو من بعيدٍ عن الإفطار على تمر أو على غير التمر، بل حتى لا يوجد في صحيح البخاري حديثٌ واحدٌ عن استحباب أو حتى أمر النبي بالإفطار على تمر أو غير التمر، وأيضًا لا يوجد في صحيح مسلم حديثٌ واحد فيما ذكرت. ولكن الحديث الذي يعتمد عليه الناسُ في هذا الشأن هو حديث رواه الترمذي، حيث يورد الترمذيُ في جامعِه في كتاب الصوم تحت باب أسماه باب ما جاء ما يستحب عليه الإفطار ويقول: حدثنا محمد بن عمر بن علي المقدَّمى: حدثنا سعيد بن عامر: حدثنا شعبة عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله: «من وجد تمرًا فليفطر عليه ومن لا فليفطر على ماء فإن الماء طهور». وقد أورد الترمذيُ في هذا البابِ ثلاثةَ أحاديث وهو بنفسِه ضعَّف اثنين منها. فالترمذي الذي ذكر الحديثَ، هو بنفسِه قال عنه إنه حديث ضعيف، وقال بالحرف الواحد حديث أنس لا نعلم أحدًا رواه عن شعبة مثل هذا غير سعيد بن عامر وهو حديث غير محفوظ ولا نعلم له أصلًا (1)

كما ذكرت إن الترمذي قد أورد ثلاثة أحاديث في هذا الباب، اثنين منها أحاديث ضعيفة؛ لأن راويهما هو سعيد بن عامر، بل إن الحديث الثاني قال عنه الترمذي هو حسن غريب، ثم قال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان فيما يخص الحديث الثاني لا نعلم روى هذا الحديث غير عبد الرزاق ولا ندري من أين جاء عبد الرزاق. (2)

أما الحديث الثالث فقد روته الرباب، وهي (الرباب بنت صليع بن عامر) الملقبة بأم الروائح، ويقول الترمذي عن حديث الرباب: هذا الحديث عن شعبة عن عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أصح من حديث سعيد بن عامر.(1)

ولكن الرباب بنت عامر الذي اعتبر الترمذي حديثَها صحيحًا، إلا أن ابن الحجر العسقلاني لم يعتبر حديثَها صحيحًا، وإنما قال: حديثها مقبول.(3) بل الرواية التي فيها الرباب بنت عامر مروية أيضًا عن سفيان بن عيينة، الذي قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: أثبت الناس في عمرو بن دينار، حافظٌ له، غلط في حديث الكوفيين، وغلط في حديث الحجازيين في أشياء.(4) وقال عنه ابن حجر العسقلاني: ثقة حافظ فقيه إمام حجة إلا أنه تغير حفظه بآخره، وكان ربما دلس، لكن عن الثقات، وكان أثبت الناس في عمرو بن دينار.(5)

إذًا فنحن أمام حديث وحيد فقط يتحدث عن الإفطار على تمر، وهذا الحديث اليتيم لم ترق راويتُه لدرجة الصحة، ففيه راوية بالكاد يُقبل حديثها، وفيه راوٍ آخر قالوا إنه مدلس وتغير حفظه. فحتى هذه الرواية الوحيدة اليتيمة فيها من العطب ما يجعلها عديمة القيمة.

أعداد التمر الفردية

في الحقيقة لا أجد شيئًا أكتبه تحت هذا العنوان، فلم أجد أيَّ دليل من الدين ولا من العلم يخص هذا الموضوع سوى حديث مُنكَر ذكره أبو يعلى في مسنده حيث قال: حدثنا إبراهيم بن الحجاج السامي، حدثنا أبو ثابت عبد الواحد بن ثابت، حدثنا ثابت: عن أنس قال: كان النبي يحب أن يفطر على ثلاث تمرات أو شيء لم تصبه النار.
وقال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: رواه أبو يعلى، وفيه عبد الواحد بن ثابت، وهو ضعيف. بل يكفيني أن أذكر قول البخاري عن عبد الواحد بن ثابت حيث قال: هو منكر الحديث.(6)

أما من الناحية العلمية، فكل ما يُذكر عن فوائد أكل عدد فردي من التمر هو محض خرافة ولا يستند إلى أي دليل علمي، سوى كلام مُرسل على منتدى فتكات(7)، حيث قالوا لقد اكتشف باحث أمريكي مؤخرًا فائدة تناول التمر بأعداد فردية. ولكن لا نعلم اسم هذا الباحث، وفي أي جامعة يعمل، وما هو اسم البحث، وفي أي مجلة علمية تم نشره. وبحثت أنا بنفسي رغم عدم ذكرهم لأي أدلة، فلم أجد أي شيء.

ولكن للأمانة العلمية، فقد وجدت بالفعل بحثًا منشورًا تحت عنوان تأثير تناول عدد فردي أو عدد زوجي من البلح على جلوكوز الدم (8) وقد خلص الباحثان في النهاية إلى أنه لا يوجد أي فرق بين تناول عدد زوجي أو عدد فردي في حالات الصيام أو ما بعد الأكل، وقالوا بالحرف الواحد:

There is no difference between ingestion of odd or even number of date fleshes from the glycemic point of view on the glucose level in fasting and postprandial states.

الإسلام والثقافة

من المؤسف بعد هذا كلِّه، أن يروج المسلمون لأمورٍ لا أصل لها في الدين سوى أحاديث واهية وضعيفة ومنكَرة. ومن المؤسف أن يكون جميع مسلمي العالم الآن يتناولون نفس الطعام الذي كان يتناوله أهل المدينة منذ 1400 عام زعمًا منهم أنه اتباع للنبي، مع أن الله يقول قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ولكن ربما لم نميز بعدُ بين التقليد والاتباع. لم نمير بين اتباع النبي فيما جاء من رسالة وخُلُقٍ ودين، لا فيما يأكل وما يشرب وما يرتدي. حيث أن التركيزَ على هذه الأمور البشرية من مقامات النبي التي يشترك فيها جميع الناس، هو ابتعاد صارخ عن روح الإسلام وعن مقصده.

من المؤسف أيضًا أن ينشرَ العربُ عاداتِهم وتقاليدَهم وأنواعَ أطعمتهم في العالم كلِّه على أنها من الإسلام، فكأنما ينطبق فينا قول الله في الذين ذمَّهم في كتابه وقال وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.

وأريد أن أختم كلامي بمقولة للشيخ محمد الغزالي – رحمة الله عليه – حيث قال إننا لسنا مكلفين بنقل تقاليد عبس وذبيان إلى أمريكا وأستراليا، إننا مكلفون بنقل الإسلام وحسب.(9)

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد