تسرع البعض في استشراف مسيرة إدارة جوزيف بايدن في ميدان العلاقات الدولية، حيث تم التضخيم من انقلاب شكل ومضمون الدور الأمريكي وأثره النوعي، الذي سيقف على نقيض كل ما كان في عهد دونالد ترامب في إطار مسار جديد تجري فيه إعادة – أو استحضار – الوضع الدولي للولايات المتحدة إلى ما قبل ذلك العهد.

هذا التصور يمكن تبريره بالاستناد في المقام الأول إلى البيانات والوعود التي كانت مُتَضمنة في الحملة الانتخابية لبايدن بجزئها المتعلق بالسياسة الخارجية التي أُسست على نقد وتقييم مواطن الخلل في السلوك الخارجي لإدارة سلفه، وما يرتبط بذلك من الحديث عن عودة التنسيق مع الحلفاء في إطار التعاون الدولي عبر القنوات التنسيقية للمنظمات الدولية وغيرها من السُبل.

لكن، وكما هو ظاهر للجميع من فاعليين دوليين وصناع قرار وأكاديميين وحتى متابعين للشأن الدولي، أن الواقع قد تغير، ليس خلال الأربع سنوات الماضية فقط، وإنما هناك صيرورة من التنافس الدولي بدأت نتائجها بالظهور تدريجيًّا من حيث التسابق العسكري والتكنولوجي والجيواستراتيجي بين الولايات المتحدة ودول أخرى قامت بتثبيت احتمالات تنامي نفوذها على الساحة العالمية بشكل لا عودة عنه، صيرورة انطلقت إبان إعادة تشكيل العالم سياسيًّا واقتصاديًّا بعد انهيار المنظومة الاشتراكية.

وبالتالي يمكن اعتبار الفترة الرئاسية لترامب والسلوك التصعيدي والتصادمي الذي أنتجته ونشرته في عدد كبير من المحطات والقضايا الدولية كمُعجِّل في نمو وتيرة التناقضات على الصعيد الدولي وليس كخالق لها، ناهيك عن دور أحداث «مفاجئة» في حالة التأزيم (بين الحلفاء والخصوم على حد سواء) مثل تفشي فيروس كورونا وتداعياته السلبية العميقة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية.

هنا يمكن التقاط فكرة مبدئية تتعلق بطبيعة التغيرات التي يتوجب على إدارة بايدن التعرض لها في علاقات بلاده مع حلفائها وبالأخص الاتحاد الأوروبي، ويرتبط مع ذلك السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: هل تتوافق الرؤية الأمريكية الحالية مع نظيرتها الأوروبية تجاه آلية التعامل مع الخصوم الدوليين أم أن قادة الاتحاد الأوروبي (ألمانيا وفرنسا بشكل رئيسي) سيسعون إلى الخروج بمقاربة وآليات جديدة ليس بالضرورة أن تتماهى مع الرؤية الأمريكية؟

أشار بايدن في عدد من المناسبات قبل وبعد استلامه للسلطة كان آخرها كلمته في مؤتمر ميونخ للأمن في 19 فبراير (شباط) الماضي، إلى «عودة أمريكا» وما يترافق مع ذلك من عودة التنسيق عبر الأطلسي في مواجهة بكين وموسكو على حد تعبيره، وفي المقابل صرحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بإظهار جوانب التعاون والاختلاف مع المنافسين، فيما دعا الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى الحوار مع روسيا لتوضيح جوانب العلاقة بين الغرب وموسكو.

التصريحات التي جاءت في مؤتمر ميونخ، وقبل ذلك في قمة مجموعة السبع التي حضرها بايدن، يمكن قراءتها على أنها إعلان عن عودة ما يمكن تسميته بالدفء الدبلوماسي إلى ضفتي الأطلسي، لكن هذا لا يستدعي واقعًا أفضل من التنسيق بين بروكسل وواشنطن.

فصل جديد من التعاون الصيني الأوروبي

أعلنت المفوضية الأوروبية في 30 ديسمبر (كانون الأول) الماضي (قبل ثلاثة أسابيع من تنصيب بايدن) التوصل إلى صيغة مبدئية من اتفاق استثماري شامل بين الاتحاد الأوروبي والصين بعد سبع سنوات من المفاوضات، يسمح لهذه الأخيرة الاستثمار في مجال الطاقة المتجددة الذي كان محرمًا على الرأسمال الصيني حتى موعد هذه الاتفاقية، وفي المقابل ستضمن الشركات الأوروبية بيئة تنافسية تتسم بالشفافية لدى عملها داخل السوق الصيني مقابل الفاعلين الاقتصاديين المدعومين بشكل كلي أو جزئي من قبل الدولة، كما أنه لن يجري إجبارها على شراكة المؤسسات الاقتصادية المحلية وما يتضمن ذلك من نقل قسري للتكنولوجيا، بالإضافة إلى تعهد الصينيين باحترام الملكية الفكرية.

الاتفاق الذي يهدف إلى رفع وتيرة الاستثمارات بين الصين ودول التكتل الأوروبي عبر تعزيز سبل الوصول إلى الأسواق المحلية، يأتي نتاجًا طبيعيًّا لمجموعة من العوامل والحقائق أبرزها: إزاحة الصين للولايات المتحدة كأكبر شريك تجاري لدول الاتحاد خلال الربع الثالث من عام 2020، حيث تراجعت كفاءة سلال التوريد الأمريكية المتأثرة بتداعيات كورونا لصالح نظيرتها في الصين التي بدأت بالتعافي في ذلك الوقت المبكر نسبيًّا، وعلى خلفية ذلك بلغ التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي والصين 586 مليار دولار مقابل 555 مليار دولار مع الولايات المتحدة خلال عام 2020.[1]

هذا أولًا، أما ثانيًّا فيعد الاتفاق المذكور تطورًا منطقيًّا للاتفاقيات التجارية الثنائية التي تجمع الصين مع الغالبية العظمى من دول الاتحاد بشكل فردي، ذلك على الرغم من أن جزءًا من الانتقادات الموجهة للاتفاق تزعم أنه سيكون لمصلحة حفنة من الشركات الألمانية العاملة في مجال صناعات السيارات والصيرفة والتأمين وغيرها، إلا أنه وبشكل عام تفرض العلاقات الاقتصادية التي تراكمت كمًّا ونوعًا بين الطرفين، نقل التنسيق إلى مستوى أرفع يتناسب مع الثِقل الاقتصادي الذي يشغلانه، فبلغ مجموع الناتج المحلي الإجمالي لكل من الصين ودول التكتل الأوروبي 30 ترليون دولار في 2019 ما يعادل 34% من إجمالي الناتج المحلي العالمي بحسب أرقام شركة KPMG إحدى أكبر شركات المحاسبة في العالم.[2]

ويشترك الاتحاد الأوروبي مع بكين وإن كان بشكل غير واضح في السعي إلى تعزيز مكانة عملتيهما في النظام المالي العالمي كاحتياطات نقدية ووسيلة دفع في مقابل احتكار الدولار لنظام التحويلات الدولية، فالجميع يتذكر كلام جان كلود يونكر، الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية في الخطاب الذي ألقاه أمام البرلمان الأوروبي في سبتمبر (أيلول) 2018 والذي انتقد فيه التعامل المفرط بالدولار في التعاملات الخارجية للاتحاد الأوروبي، في المقابل تستمر الصين في إزاحة الدولار من التداولات التجارية مع العديد من البلدان مثل روسيا وتركيا وغيرهما.

ومثلت الاستثمارات الصينية في بعض الدول الأوروبية مبعثًا للقلق بالنسبة لقادة الاتحاد، حيث اشترت الصين غالبية الحصص في ميناء بيرايوس اليوناني في عام 2016، كما أنها مهتمة بالاستثمار في الموانئ الإيطالية (ميناء ترييس وجنوة وغيرهما) في إطار اتفاق صيني إيطالي لتشييد البنى التحتية جرى توقيعه في مطلع 2019، ليكون ذلك بمثابة موافقة ضمنية لروما على مبادرة الحزام والطريق الصينية، التي تعد أكبر مشروع لتشييد البنى التحتية في التاريخ لإيصال البضائع الصينية إلى أوروبا عبر آسيا وأفريقيا، بالإضافة مشاركة شركات صينية مدعومة من الدولة في ملكية موانئ في هولندا وبلجيكا.

وعليه، من الممكن قراءة الاتفاق المذكور كرد فعل على هذا التمدد الصيني ورغبة من الدول الأوروبية (المركزية منها في المقام الأول) في عدم الاكتفاء بمشاطرة الولايات المتحدة الانتقادات لعمل شركات القطاع العام الصيني في الاقتصاد الأوروبي، وإنما المبادرة إلى تحسين حالة الاستثمار الأوروبي في السوق الصينية لتعزيز الاعتمادية المتبادلة بهدف سد الطريق أمام أي طموحات صينية لخلق شكل من أشكال الاعتمادية الأحادية أو التبعية الأوروبية لبكين، لذلك يقارب البعض مشروع الاتفاقية الاستثمارية الصينية الأوروبية مع الاتفاق التجاري الأولي الذي وُقِع بين بكين وواشنطن في يناير (كانون الثاني) 2020 والذي كان بمثابة إعلان هدنة لحرب تجارية استمرت لعامين.

المشروع الصيني الأوروبي للشراكة الاقتصادية ينم عن قناعة ربما يجري تداولها في أروقة مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل، مفادها أنه آن الآوان لإقدام الاتحاد على تعظيم دور العلاقات الاقتصادية مع الصين كقوى عالمية موازية وليست بديلة للولايات المتحدة التي لم يعد استقرار العلاقات الاقتصادية والسياسية معها مضمونًا، الحقيقة التي ثبتتها الفترة الرئاسية لترامب التي ليس من المستبعد تمامًا ألا تعود بشخصيات وشعارات جديدة في المديين القريب والمتوسط، هذا إذا ما اعتبرنا أن الترامبية ما هي إلا طورٌ اجتماعي ينعكس مؤسسيًّا، لا يمكن التخلص منها إلا بحل المشكلات الاقتصادية وما يتبعها وينتج منها من أزمات ثقافية وهوياتية يعاني منها المجتمع الأمريكي.

هذا الشكل التدريجي لبناء القاعدة الاقتصادية لا يسعى إلى الاستبعاد الشامل للولايات المتحدة من الساحة الاقتصادية، فهذا مستحيل من الناحية الموضوعية، وإنما لإعادة موضعة مكانتها بحيث لا تؤثر بشكل كبير على الاستقرار الاقتصادي بمستواه الدولي كانعكاس للتغيرات السياسية المحتمل حدوثها في واشنطن.

قبل أيام من الإعلان عن الاتفاق المذكور دعا جيك ساليفان مستشار الأمن القومي في إدارة بايدن الاتحاد الأوروبي إلى الانتظار للتحاور حول العلاقة مع الصين ككتلة غربية واحدة، إلا أن دعوته لم تلق آذانًا صاغية، وهذا لا يعني أن واشنطن ستقف متفرجة على مجريات الأمور، حيث سيكون من المرجح أن يتم الضغط بشكل غير مباشر على المشرعين في البرلمان الأوروبي لدى قيامهم بالتصويت على الاتفاقية في مطلع العام القادم[3]، وذلك من خلال التركيز على وضع حقوق الإنسان في الصين والمتصل بتطبيق قانون الأمن القومي على هونج كونج و«اضطهاد» مسلمي الأويغور في إقليم شينجيانج، بالإضافة إلى الحديث عن احتمالية عدم التزام الصين ببنود الاتفاقية، ويُذكر أن إبطال الصفقة يحتاج إلى معارضة أربع دول تمثل 35% من سكان الاتحاد الأوروبي.[4]

لطالما كان عامل حقوق الإنسان حاضرًا في الانتقادات الأوروبية للصين، لكنه – كما يبدو – لم يكن بحجم البراغماتية الاقتصادية التي تسود في نهاية المطاف، لقد اختبرت القارة العجوز أربع سنوات من العداء التجاري أحادي الجانب تجاه الصين دون أن يتم التنسيق معها في أي إجراء أمريكي مُتخذ في هذا الخصوص، ما أثر فيها بشكل سلبي من الناحية الاقتصادية، وكانت النتيجة أن الاقتصاد الصيني بقي صامدًا بشكل لافت، هذا يعني أن أي تحالف مستقبلي موجه ضد الصين بين واشنطن وبروكسل ستكون نتائجه كارثية بالنظر إلى الأزمة الاقتصادية التي خلفها الوباء، والأهم أن ذلك لن يفضي إلى تعزيز موقع الاتحاد الأوروبي على الساحة العالمية، وبالتالي هذا ما قد يجعل خيار بروكسل للتفاهم مع الصينيين حول القضايا الاقتصادية الإشكالية خيار اضطراري لم يكن اعتبار حقوق الإنسان هو الحاسم أثناء اتخاذه.

إن بحث الاتحاد الأوروبي عن خصوصية ما في خضم ما يشهده العالم من تغيرات، لم يتوقف حتى عند العلاقة المتأزمة بين أستراليا (حليفة الغرب)، والصين (شريكها التجاري الأول) التي تفرض تعريفات جمركية قاسية على صادرات الأولى من الشعير والنبيذ واللحوم وغيرها من المنتجات[5]، وذلك بسبب سياق طويل نسبيًّا من التنافر الدبلوماسي الأسترالي الصيني، لعل أبرز محطاته الدعوة الاسترالية في نيسان 2020 إلى التحقيق في منشأ فيروس كورونا في الوقت الذي كانت فيه ادعاءات ترامب التي حمَّل عبرها الصين مسؤولية انتشار الفيروس في ذروتها، وسبق ذلك إقدام السلطات الأسترالية على حظر عمل شركة «هواوي» في 2018.

فهل كان من الواجب على بروكسل أن تعيد النظر فيما يخص تعميق العلاقات الاقتصادية مع بكين؟ هذا لم يكن ليبدو منطقيًّا بعد انضمام كانبرا نفسها إلى الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة التي جرى الإعلان عنها في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي والتي جمعت كلًّا من الصين وأستراليا ونيوزلندا وكورويا الجنوبية واليابان ودول منظمة «آسيان» العشر في اتفاق تجاري وصف أنه الأكبر في التاريخ نظرًا إلى أن الدول المشاركة تشكل ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

وبالمناسبة كان من ضمن الظروف المهيئة لإنجاح الشراكة الأخيرة هو انسحاب إدارة ترامب من الشراكة الاقتصادية الإستراتيجية عبر المحيط الهادئ في يناير (كانون الثاني) 2017، الاتفاقية التي وقعتها إدارة أوباما عام 2015 مع العديد من دول منطقة المحيط الهادئ وجنوب شرق آسيا.

باختصار، الجميع يبحث عن صيغة معينة مع الصين التي بات من غير الممكن تجاهل ثقلها الاقتصادي في سلاسل التوريد العالمية ليس كـ«مصنع العالم» فحسب وإنما كمركز للتطوير الإنتاجي والتكنولوجي وحتى المالي والعسكري.

كل ما سبق يشير إلى أن الإدارة الأمريكية الجديدة في وضع لا تحسد عليه، بالأخص أنها أمام تحديات داخلية كبيرة على الصعيد الاقتصادي الذي دخل في نفق الحزم التحفيزية، والانقسام الاجتماعي المستفحل الذي سيصعب معه اتخاذ موقف متشدد حيال الحلفاء أو فرض شكل مسبق من العلاقة تجاه الفاعلين الدوليين الآخرين.

على الأغلب أن الولايات المتحدة ستقوم برفع سوية علاقاتها مع أستراليا والمملكة المتحدة وكندا والهند وغيرها من الدول التي لا تجمعها علاقات جيدة مع الصين، بالإضافة إلى محاولتها إقناع الدول الآسيوية بتكثيف عمليات الاحتواء الأمني لتصبح إستراتيجية أمريكية في بحر الصين الجنوبي والشرقي ومنطقة جنوب شرق آسيا بشكل عام، لكن قبل هذا الحراك الأمريكي المُتوقع سيكون على واشنطن أن تحل المعادلة الاقتصادية التي تربط هذه الدول (الآسيوية على وجه التحديد) بالصين.

أمام هذا المشهد وعلى الرغم من التصريحات «الصارمة»، لن يجري استبعاد خيار الجلوس مع الصينيين على طاولة المفاوضات من أذهان موظفي إدارة بايدن سعيًا منهم أيضًا للتوصل إلى صيغة معينة حول القضايا الخلافية والتي تتلخص بشكل أساس بتنامي النفوذ الصيني على جميع المستويات، وبوادر هذا الكلام بدأت في الظهور مبكرًا في 18 مارس (آذار) الماضي، حيث التقى وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي، جيك ساليفان، في اجتماع رفيع المستوى في ولاية ألاسكا الأمريكية مع وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، ومسؤول ملف السياسة الخارجية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، يان تزيتشي، وعلى الرغم من أن المحادثات كانت سلبية بشكل عام، فإنها تدلل بشكل أو بآخر لعدم القدرة بتجاوز الصين كوحدة جوهرية –إن لم تكن حاسمة – في المنظومة الدولية.

روسيا قضيةً خلافية أخرى

يبدو أن العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا الاتحادية مشابهة لنظيرتها الصينية من حيث إشكاليتها بالنسبة للإدارة الأمريكية، حيث ترفض ألمانيا العقوبات الأمريكية المفروضة على أعمال مشروع خط أنابيب الغاز «نورد ستريم 2» الذي شارف على الانتهاء والذي تعده برلين جزءًا من أمنها وأمن أوروبا الطاقي، بينما تعده الإدارة الأمريكية السابقة والحالية مبالغة في الاعتماد على واردات الطاقة الروسية.

لكن ألمانيا تسعى لعقد صفقات ترضي الجميع بحسب جوزيف جوف، أستاذ السياسة الدولية في جامعة جونز هوبكنز، الذي أشار في مقاله على [6] Project Syndicate إلى أن هناك جهود إلى إقناع إدارة بايدن أن السوق الألمانية والأوروبية تتسع للجميع، حيث وعدت برلين بتخصيص أموال أكبر لبناء وتحسين محطات الغاز الألمانية لاستقبال الغاز المسال الأمريكي، إلى جانب تقديم ضمانات باستمرار مرور الغاز الروسي عبر أوكرانيا وبولندا بشكل لا يضر بمصالحهم ومصالح دول أخرى في أوروبا الشرقية.

بالإضافة إلى ملف حقوق الإنسان –الحاضر دائمًا بصورة ثانوية – هناك مخاوف عديدة صادرة عن بروكسل تجاه السياسة الخارجية الروسية، حيث إن هذه الأخيرة تسعى دائمًا إلى تقوية العلاقات مع دول الصف الثاني والثالث في الاتحاد الأوروبي التي تأثرت بشكل كبير بعد أزمة منطقة اليورو التي بدأت عام 2010، مثل اليونان، كما وكان من اللافت التعاون الكبير الذي أبدته موسكو في مكافحة فيروس كورونا مع دول مثل إيطاليا والمجر في الوقت التي كانت في الدول المركزية في الاتحاد تأن تحت وطأة الجائحة في مطلع العام الماضي.

العلاقة الروسية التركية هي موضوع مقلق آخر، فتركيا عضو الناتو والتي بدأت منذ زمن باتخاذ سياسة مستقلة عن الاتحاد الأوروبي والغرب بشكل عام تجاه العديد من القضايا اشتركت في طور جديد ومميز من التنسيق مع روسيا بشكل غير إستراتيجي تجاه القضايا الإقليمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب القوقاز.

وبالتالي فإن القطع المباشر والمفاجئ للعلاقات بين بروكسل وموسكو إن حدث فمن شأنه أن يؤدي لوضع غير مريح في المجال الحيوي للأولى، بالإضافة إلى انحدار ما تبقى من حالة التفاهمات الضمنية وضبط العلاقات البينية المستندة إلى قاعدة المصالح الاقتصادية المشتركة، إلا أن هذه المصالح تضررت بشكل كبير بسبب الجائحة، فعلى سبيل المثال انخفض حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في روسيا (ومن ضمنه الاستثمارات الأوروبية) بنسبة 98% في الربع الأول من عام 2020 مقارنة بالفترة ذاتها من العام الذي سبقه بحسب بيانات البنك المركزي الروسي[7]، وإلى جانب وجود بدائل متعددة من واردات الطاقة، سيكون بيد بروكسل خيار الذهاب بالعلاقة مع موسكو إلى أدنى مستوياتها مع الإبقاء على مستوى منخفض من التنسيق الدبلوماسي.

وبعبارة أخرى قد يتم إرجاع العلاقة مع موسكو إلى ما يشبه أجواء الأزمة الأوكرانية في 2014 التي بدأت بالانتعاش في الفترة الأخيرة، استجابة للضغط الأمريكي للتخفيف من حدته المتعلقة بالعلاقة مع الصين، لكن ما يظهر على أنه ليس مُستوعبًا لدى بروكسل أو واشنطن هو أن دولًا عانت من الرفض والعجرفة الغربية في أكثر من محطة، لن تضحي بخياراتها الإستراتيجية للتقرب من الأوروبيين، وبعبارة أخرى لن يكون هناك نتيجة تذكر بالمفاضلة بين موسكو وبكين من أجل إفشال تحالفهما، وهذا ما لم يحصل في عهد ترامب الذي حاول تغيير شكل التحالفات في الشرق، إلا أن ذلك كان له مفعول عكسي.

وفي الختام، يمكن أن نستنتج بعد هذا الاستعراض أن العلاقة الأوروبية الأمريكية تمر منذ وقت ليس ببعيد بفترة انتقالية بحكم التغيرات المتسارعة – والمفاجِئة أحيانًا – التي تشهدها الساحة الدولية، والتي تفرض شكل متواتر من السياسة الخارجية الأوروبية بين التنسيق في قضايا مثل السياسة الدفاعية وشكل الاتحاد الأوروبي ما بعد البريكست فيما يخص عدم تطور العلاقة البريطانية الأمريكية بمعزل عن التفاهم مع بروكسل من جهة، وبين عدم التنسيق في علاقة هذه الأخيرة مع القوى الصاعدة من جهة أخرى.

هذا التواتر يجري في إطار انتقال العالم إلى طور آخر من العلاقات الدولية يحتج على «العولمة المفرطة» المُصاغة من قبل دول العالم المتقدم في الغرب خلال العقدين الماضيين والمستندة إلى الحركة الحرة جدًّا لرؤوس الأموال واندماجها في شركات عابرة للقارات تؤثر في الشروط الحياتية للبلدان العاملة فيها، والتي لم تؤثر – أي هذه العولمة- فقط في شعوب العالم النامي من حيث انهيار المؤشرات الاقتصادية والمعيشية وانحدارها إلى المنطقة السالبة، بل عانت منها أيضًا شعوب المراكز الرأسمالية باتساع رقعة الفقر وانحسار حجم الطبقات الوسطى والتي انعكست اجتماعيًّا وثقافيًّا بتنامي الحِراكات الشعبوية التي وصل ممثلوها إلى السلطة التنفيذية والتشريعية في عدة دول أوروبية وفي الولايات المتحدة نفسها.

لكن هذا الاحتجاج لا يعني بأي شكل أن المستقبل سيكون مشرقًا بالضرورة، وإنما هو سياق اقتصادي واجتماعي ربما يكون طويلًا من الناحية الزمنية، ستتناقض عبره النخب الأوروبية الموجودة في السلطة مع بعضها البعض بحثًا عن خيار آخر يحفظ مصالحها بهذا القدر أو ذاك ويعيد إنتاج موقعها الجيوسياسي على الخارطة العالمية، ومن هذا المنطلق يمكن فهم تجديد دعوات تحقيق «السيادة الأوروبية» الصادرة عن بعض القادة الأوروبيين عند الحديث عن العلاقة مع الولايات المتحدة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد