من خلال مراجعتي لهذه القضية الكبيرة والشائكة، إذا صح التعبير، والتي تقف ندًّا أو حائطًا سميكًا أمام الكتاب، سواء المتمرّسين منهم أو المبتدئين، وجدت أنها ذات طرح إشكالي مهم، فالكتابة أيًّا كان توجهها أو المسار الذي تسلكه تكاد تكون مستعصية ومستحيلة في بعض الأحيان، فمن أول خطوة يخطوها سالك هذا الطريق يرى أمامه تلالًا ممتدّة وهضابًا وعرة، لا يزداد بالسير فيها إلا استصعابًا للوصول إلى أية غاية، فيقف عند كتاب عظماء أمثال: نجيب محفوظ، طه حسين، فرجينيا وولف، فوكنر، سالنجر، وجويس، وروسو، نيتشه، وآرثر كلارك، وكارل ساغان، وكير كيغارد… أسماء كثيرة تستحق الذكر، هكذا يقف متلكئًا في واحة حدائق أزهارهم، وتتبادر لذهنه أسئلة كثيرة كالتالي:
– ماذا سأكتب في ظل كل ما كُتب؟
– هل سأكتب عملًا ذا أهمية يلقى إقبالًا لدى القراء أم عملًا يضاف إلى الرفوف؟
– ماذا سأصنع بقلمي البائس وأوراقي المهترئة هذه؟
أسئلة كثيرة تتبادر للذهن مشكّلة عقبة كبيرة محبِطة وكاسرة للآمال أمام الكتاب المبتدئين خاصة، والكتاب المتمرّسين أيضًا عند انتهائهم من عمل ما، فغالبًا ما يفكرون في العمل القادم وكيفية تقديمه، هل سيكون أفضل من العمل السابق! وما يزيد من صعوبة الأمر هو إن لقي العمل الأول إقبالًا ضارب الصيت. فما الذي سيكتب بعده؟
لكن بمجرد طرح هذا الكم الهائل من الأسئلة، ستجد نفسك عاجزًا عن التفكير، وليس باستطاعتك كتابة سطر واحد معقول، إلا أن الأمر ليس فائق الصعوبة، ولا يمكن تصوره أيضًا بالأمر البسيط. الكتابة جوهريًا يصعب وصفها أو تحديد قواعد لها أو قوانين وشروط محددة للقيام بها، وإنما في حقيقة الأمر تحتاج إلى إرادة قوية، سحرية دفينة، وحياة متنوعة التّجارب، حياة مليئة بالأحداث، ومعايشة هذه الأحداث، سواء كانت حقيقة أم كذبة أم نسيج خيال، والعقل الحر بإمكانه الإبداع والقيام بكل ما ذكرناه دون عيش حياة متنوعة التجارب والأحداث، لكن كيف؟ كيف لشخص لم يخرج من غرفته أن يكتب عملًا يصف فيه شوارع مدينة أخرى، وثقافة بلد آخر، وأشياء لا يمكن عملها إلا بالتجربة المسبقة؟
القراءة هي العنصر الخفي وراء الكتابة، هي الغداء الروحي للكاتب، فلا يوجد كاتب لا يقرأ، هذا أمر غير منطقي، فالكاتب هو أول قارئ لعمله، أما إذا استنجدنا بالموهمة نجد أنها غير كافية، نجد شيئًا ناقصا، القراءة تسد ذلك النقص من خلال ضبط الكتابة، وإعطاء عمل بديع واسع المعرفة، والموهبة وحدها لن تقوم بذلك، بل الموهبة وحدها بدون قراءة تنتج عملًا هزيلًا يضاف إلى الرفوف، القراءة تفتح الباب لرؤية ما وصل إليه الأدب، وذلك يخرجك مجددًا من باب آخر لتنجز عملًا فريدًا عما كتب سلفًا، على الأقل أن تعرف ما الذي ستكتب في ظل كل ما كتب؟
إذًا لا بد عن القراءة قبل الكتابة. يقول في هذا الموضوع الروائي المكسيكي كارلوس فويتس «ينبغي للكاتب أن يقرأ كثيرًا، ينبغي أن يقرأ كثيرًا، ينبغي أن يقرأ كثيرًا، القراءة أساسية للكاتب، ينبغي للكاتب أن يحب القراءة ليصبح كاتبًا، لأن الكتابة لا تبدأ معك ولا تنبثق من العدم». وتقول الروائية الأمريكية كارول أوتي: «إن الكتابة بمثابة حركة تجاه مكامن الاستنارة التي تتطلب قوة وأصالة».
وفي واقع الأمر الكتابة أو الأدب الحقيقي يدور حول الحقيقة النفسية والعاطفية والاجتماعية كما تجسدها أفعال وتأملات أبطالها. أما في الجانب الآخر يقول الروائي الإيراني شهريار مندني بور: «كل القصص قد حكيت من قبل، والكاتب الشجاع ليس من يجد قصة جديدة، بل من يجد طريقة جديدة في سرد قصة قديمة».
وفي هذا السياق نستحضر مجموعة من الحوارات قامت بها مجلة «ذا باريس ريفيو» مجلة أدبية فصلية تصدر باللغة الإنجليزية، تحاورت مع نخبة من الروائيات والروائيين حول أعمالهم المكتوبة، وطقوس الكتابة. فعلى سبيل المثال الروائي البرتغالي «خوسيه سارماغو» الحائز على جائزة نوبل للآداب، وأعماله الأدبية تتحدث عنه، ومن أهمها العمل البديع رواية (العمى) والأكثر صعوبة على الفهم بين كل أعماله. وحين سئل عن هذه الصعوبة التي تكمن في حقيقة القسوة البشعة التي يعامل بها الإنسان رفيقه الإنسان بعد وقوعهم جميعًا تحت طائلة العمى، ردّ قائلًا: «أنا متشائم، ولكن ليس إلى الحد الذي يدفعني إلى إطلاق النار على رأسي!»، والعمى الذي قصدته في الرواية عمىً اصطلاحيًا يحيل إلى عمى العقل البشري الذي يسمح لنا بلا أي وخز من ضمير أن نرسل سفينة فضائية لتحط على المريخ وتتفحص مكوناته الصخرية في الوقت الذي نسمح فيه لملايين من الكائنات البشرية أن تتضور جوعا على كوكبنا الأرضي. نحن إما عميان أو مجانين ولا شيء غير هذا. وتحدثت الروائية الأمريكية توني موريسون الحائزة على جائزة نوبل للآداب هي الأخرى، ولها أعمال بديعة ومنها رواية «المحبوبة» التي حازت على جائزة البوليتزر للرواية وعناوين كثيرة مميزة ذات أهمية، أجابت في حوارها مع المجلة عن السؤال المتعلق بعاداتها الكتابية اليومية قائلة إن لها عادات كتابية مثالية، لكن لم تضعها يومًا موضع التنفيذ الكامل.
وهكذا تتوالى الأسئلة دائمًا مع العديد من الكتاب، إلا أن ما يجب ذكره هنا أن الكتابة عشيقة الوحدة، وعلى الكاتب أن يتعود عليها، وأن يحبها كحبه للكتابة، أما بالنسبة للطقوس والشروط المرتبطة بفعل الكتابة فلا جدوى منها، وإنما يصنعها كل كاتب لنفسه في ظل الجو الذي يحبه، وفي الوقت الذي يحدده بانتظام ويرتاح فيه، ويمكن أن يبدع فيه أيضًا، وكذلك يكون بمقدوره مواجهة الوحدة. وسبر أغوار الشخصيات المختلفة التي يود تقديمها في عمله الأدبي. والأهم أيضًا أن تكتب لا لشيء، أو غاية مادية، أو أي شيء، لا تنتظر نتيجة خططت لها مسبقًا، الكتابة مختلفة كثيرًا عن الأهداف الأخرى، لكن كما ذكرت ألفًا يجب أن يكتب المرء، يجب أن يكتب ويقرأ، ويبحث في ماهيته إلى أن يستشعر وجود الكتابة في داخله، وبمجرد اكتسابها والاستشعار ببريقها ستجد الأجوبة التي تبحث عنها، وستجد الأجوبة المناسبة للأسئلة السابقة.
وفي الأخير أقدم لكم نبذة من كتاب هكذا تكلم زرادشت لفريدريك نيتشه. يقول: «من بين كل المكتوب لا أحب سوى ما يكتبه الشخص بدمه، اكتبوا بدمكم وأنتم سوف تجدون أن الدم هو الروح. ولا تعتبرها نبذة فقط وإنما نصيحة خالدة».
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست